الساعة 6:11 عند هوة تطل على قاع العالم

وكالة وفا – جميل ضبابات – الوصول الى حافة الانحدار الصخري الحاد الذي لا تتقن تسلقه سوى حيوانات البدن، ليس مسألة خفة حركة فقط بل يتعلق الأمر بالوقوف فعليا على حافة قاع الدنيا.
ومن عليهم الوصول الى تلك النقطة، سيستعينون بكل الاحوال بأحد أفراد عشيرة الرشايدة، كدليل سياحي محلي. وإسماعيل وهو شاب في العشرينيات من العمر، يستطيع القيام بذلك من الألف الى الياء، رغم صحوه المتثاقل من النوم عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل، لكنه أبدى مقدرة على السير لعشرة كيلومترات صامتا في حال لم يُسأل.
هناك عند طرف الأخدود العظيم الذي يحوى قعر الكرة الأرضية يمكن الإطلال فعليا كيف تشق الشمس بطن البحر. والبحر الميت الذي يبدو متلألئا في ساعات الصباح الباكر، ليس سوى صحن كبير من الماء عالي الكثافة الملحية. هو فعليا أدنى نقطة على سطح هذا الكوكب. نحو 400 متر تزيد وتقل تحت مستوى سطح البحر.
واقفا على تلك النقطة التي تصل اليها آخر قدم بشرية قبل الانحدار القاتل، سأروي فصلا جديدا من فصول البحر الميت الذي يبحث له خبراء وسياسيون عن شريان جديد للحياة.
كنت من قبل كتبت قصصا أخرى عن البحر الأعجوبة. البحر الذي خلدته الأساطير وروت قصصه الكتب الدينية.
إلا أن البحر سيظل مدار الحديث حتى آخر نقطة منه. قال صحفي مأخوذ بجغرافية المنطقة وأساطيرها اسمه أسامة العيسة ‘لقد عاش البحر ملايين السنين. تناقض وفاض(..) لكن الميت استمر في الحياة’!
يزور الفلسطينيون البحر الميت إما عبر خيالهم، أو عبر شاشة التلفزيون، وأيضا يصلونه عبر نقاط محددة تضيق يوما بعد يوم بسبب الإجراءات الإسرائيلية التوسعية. غير أن هذه الزيارة بدت مختلفة جدا.
إنها في الحقيقة مشي على الأقدام لنحو 10 كيلومترات في قلب صحراء القدس في ليل دامس حجبت الغيوم كثيرا من ضوء قمره. إلا أن الراحلة لن تكون ايضا ممكنة إلا إذا حث السائرون نحو البحر خطاهم في النصف الثاني من الليل بعيدا عن حرارة الشمس.
وأمكن هذه الليلة لعشرة صحفيين تقريبا الوصول الى تلك النقطة التي بعدها يعني الوقوع في القاع. كانت الرحلة التي عبروها عبر أخاديد وهضاب الصحراء ليلا أقرب ما تكون الى مغامرة، لكنها محسوبة جدا. فخطى إسماعيل، واثقة في الوصول إلى نقطة النهاية، حتى في الليل الأسود.
الليل في هذا الجزء من الأرض الفلسطينية يأخذ الألباب. فعبر هذه الكيلومترات الطويلة، ليس هناك بشر ولا حتى آلة تسير.
فليس في كل هذه الأرض حتى اللحظة مكان يمكن الاعتماد عليه للحصول على ساعات من الهدوء مثل هذه المسافة الطويلة التي تم قطعها من عرب الرشايدة حتى المطلة التي يراقب من على علوها الواصلون شروق وغروب الشمس وانحسار بحيرة الملح.
خلال التاريخ الحديث وجد الفلسطينيون مسارب وعرة لهم للوصول الى البحر من ناحية المدينتين المقدستين (القدس وبيت لحم). عبر هذه الجبال الرمادية مهد الفلسطينيون طرقهم الخاصة بهم. واستفاد من تلك الطرق المهربون عبر ضفتي النهر.
ذاته إسماعيل الذي يعيش في عائلة أخذت على عاتقها استقبال الزائرين والسياح خلال الأشهر الماضية ضمن ما يطلق عليه مسار النبي إبراهيم، شق طريقه التي خصصها الأبناء والأجداد للوصول الى البحر.
ماشيا وسط واد تسير فيه المياه عندما تفيض من شعوب التلال المحيطة، يمكن للشاب أن يحصى أشياء كثيرة أصبحت جزءا من معالم الطريق مثل شجرة بطم جف ساقها بعد أن انتزعت الرياح أغصانها.، أو بئر ماء حفرها أجداده لمقاومة الصيف الحار.
هذه ليست أول مره بالنسبة لإسماعيل الذي قاد فريق الصحفيين. لكنها تبدو المرة الأولى التي يتعرض لها لأسئلة كثيرة عن مشاق السفر ليلا. يقول الشاب إنه يعلم الطريق تماما. في أرض تتشابه فيها التلال والهضاب والأودية ولون الحصى لا يبدو الاعتماد على الذكاء مصدر قوه للمستكشفين.
لكن إسماعيل وأباه وأعمامه الذين يقودون سيارة رباعية الدفع للتغلب عن أشد تضاريس الضفة الغربية وعورة يحفظون الطريق على ظهر قلب.
فلن تفيد هذه الليلة أي خارطة بمعزل عن إسماعيل. إنه فعلا خارطة الصحراء.
في الليل الدامس الصامت الذي لا يبدد هدوءه سوى اصكاك حجارة الوديان ببعضها البعض تحت الأقدام لا شيء يثير الانتباه. فالسواد عام لولا بعض المصابيح الصغيرة التي تنير دائرة صغيرة أمام المشاة.
في الليل لا شيء يثير على الأرض كثيرا.. في السماء تظهر الإثارة أكثر، فكوكب كبير يعتقد أنه الزهرة لا زال ظاهرة ومشعا في الأفق. قال أحد المشاركين في المسير ‘إنه قريب قريب. إنها نجمة تبدو قريبة من اليد’. قد يكون هو ذاته نجمة الصبح التي تذكر كثيرا في الموروث الثقافي الاجتماعي العربي.
هي رحلة مثيرة أكثر للصحفيين، لكنها أيضا كذلك بالنسبة للدليل السياحي ماهر قسيس الذي يعمل مع مسار ابراهيم الذي ينظم جولات دورية للراغبين. قال قسيس وهو شاب من سكان بيت ساحور المجاورة في منتصف العشرينيات من عمره ‘مشيت هذه الطريق 25 مرة خلال سنتين. مع ذلك في كل مرة تبدو الرحلة مثيرة’.
إن الاثارة في هذه الرحلة ظهرت في عدسات المصورين الصحفيين. بالفعل أمكن التعرف على تقنيات تصوير المجرات والنجوم في السماء. لكنها بالنسبة للعيسة الذي أنجز من قبل مشروعا روائيا حول بيت لحم، مركز المنطقة يتعدى الأمر ‘للوصول إلى إعادة اكتشاف الذات الشخصية والفلسطينية من جديد’.
واقفا فوق الهوة العالية السحيقة عند الساعة السادسة صباحا بانتظار شروق الشمس بعد 10 دقائق تساءل ‘ما هو الأجمل: الاستمتاع بمشاهدة الشروق الخرافي أم ضبط اعدادات الكاميرا لالتقاط الشروق؟’.
رغم ذلك يبدو المسير بالنسبة له ‘اقتفاء التاريخ في أرض لا يمكن أن تتكرر معالمها وأساطيرها في مكان آخر من العالم’. ‘سعيد أننا نسير هنا. هذه الارض التي مشى فيها الانبياء والقديسون والملوك’.
لكنها الأرض المالحة جدا التي لا تنبت فيها الاشجار. يقول قيسيس إنه أحصى خلال السنتين الماضيتين فقط من 7-10 شجرات سدر صحراوية في تلك المسيرة.
لكن السؤال يرتفع مره أخرى عاليا: لماذا اختار الانبياء والقديسون والملوك وجيوشهم هذه الطرق القاسية للمسيرة فيها؟. لا يبدو ملوك هذا الليل غير آل الرشايدة، فهذه صحراؤهم التي عاشوا فيها طيلة العقود الماضية واقتلعتهم منها سلطات الاحتلال وشردتهم من عين جدي حتى أعالي الجبال هنا.
حقا أن اسماعيل هو ‘ملك ملوك صحراء البحر الميت’ هذه الليلة.
مستلقيا عند انحدار، قال الشاب الذي أخذ قسطا من الراحة قال إنه لم يشاهد أي حيوان كبير من الحيوانات التي ذكرت في المنطقة. إن اجمل تلك الحيوانات هو البدن.
والبدن الوحيد وهو من اكبر الحيوانات البرية التي تعيش والذي يستطيع المشي فوق هذا الانحدار الذي يطل على البحر.
يقول عماد الأطرش الذي يقود جمعية الحياة البرية ‘تبقى قرابة 300 بدن في هذه المنطقة’. يقول اسماعيل إن الصيادين لاحقوا هذا الحيوان وقتلوه. هكذا سمعت’.
لكن ليس البدن المشهور بقرونه الطويلة وقدرته على استخدامها في القتال هو ساكن المنطقة المختفي في هذا الليل. هناك أيضا الوشق الذي يعتقد أن 4 منه فقط ما زالت موجودة، والفهد العربي الذي ما زال زوج واحد منه يتحرك على امتداد المنطقة.
فوق المطلة، النقطة التي يتجمع فوق الذين يصلون الى هنا لمراقبة الشروق، الحظ فقط يمكنه أن يدفع أحد حيوانات البدن الى المنطقة ليطل على البحر اللامع، لكن الشمس التي طلعت بعد أن احتجبت قليلا خلف الغيوم، هي الكائن الوحيد الذي يطل هذه اللحظة.
6:11 صباحا، من القمة التي رغم ارتفاعها ما تزال تحت سطح البحر المتوسطـ، لكنها بكل تأكيد فوق سطح البحر الميت الذي يظهر من أعلى مثل معدة بشرية.
هو البحر الذي تطلب من إسماعيل نحو 3 ساعات من المشي أمام الصحفيين. إن قصة إسماعيل هي قصة آخر شبان الصحراء الذين يسيرون على خطى الآباء والأجداد.
إن قصة البحر الميت يمكن الإطلال عليها من أي مكان. لكنها من هذا الارتفاع تبدو قصة مختلفة جدا. vyvanse online canada.

عن admin

شاهد أيضاً

الاحتلال يفرج عن 150 أسيرًا من غزة

أفرجت قوات الاحتلال الإسرائيلي، الإثنين، عن 150 أسيرًا من سكان قطاع غزة. وبحسب الهيئة العامة …