السلاح الاقوى في مواجهة الاوبئة

بقلم: الدكتورة كاترينا ابو فارس

في الوقت الذي يواجه العالم التحدي الصحي الأخطر على البشرية منذ جائحة «الانفلونزا الاسبانية» قبل حوالي مئة عام، والتي حصدت ما يزيد على خمسين مليون من الأرواح البشرية، تعود بنا الذاكرة الى مؤتمر «الما-اتا في كازاخستان الذي تم تنظيمه من قبل منظمة الصحة العامة واليونيسيف عام 1978 تحت شعار: «الصحة للجميع بحلول عام 2000 !

ومناسبة الحديث عن ذاك المؤتمر تعود الى أهمية الأفكار والمبادئ التي صدرت عنه وتتعلق بتحديد مفهوم الصحة والمرض لكل من من الفرد والمجتمع. فالصحة، وفق تعريف المنظمة الدولية هي: «حالة العافية الجسدية والعقلية والاجتماعية، وليست مجرد الخلو من الأمراض، وهي حق أصلي للإنسان يجب ان ترعاه القطاعات الاجتماعية والاقتصادية بالإشتراك مع القطاع الصحي.». وتحقيقها يتطلب توفير العناصر الأساسية لمنظومة الرعاية الصحية الأولية بكافة عناصرها.

اي ان النجاح في مواجهة الاوبئة للأمراض المستجدة كالايدز والسارس وانفلونزا الطيور، وأخيرا الكورونا المستجد، وتلك القديمة «المنبعثة» من جديد كالسل والملاريا واللشمانيا، يحتاج الى تفعيل منظومة الرعاية الصحية الاولية بكافة عناصرها، ومنها خدمات التوعية والتثقيف الصحي، وهو ما تم التأكيد عليه من قبل الخبراء والقادة الصحيين في مؤتمر «الما-اتا» اياه، الذي التزم بمبادئه، وتحديدا الرعاية الصحية الاولية، القادة السياسيون، واعادوا التأكيد عليها في اعلان «استانا» عام 2018.

في البداية كانت الرعاية الصحية الأولية والتثقيف الصحي خيار الدول النامية والأقل تطورا وإمكانات مادية، كونه الأقل كلفة والاكثر فاعلية وتاثيرا على الصحة العمومية، اي انه صنف في حينه كسلاح الدول الفقيرة في محاربة الاوبئة، خلافا للدول الصناعية الغنية التي انصب اهتمامها على تخصيص جل الموارد الصحية للتدخلات الخاصة بالأمراض الفردية، بديلا عن النظم الصحية القوية والشاملة، حيث تم التركيز على الخدمات الطبية الثانوية والثالثية وبالغة التخصص، وتوفير المراكز المتخصصة. لكن سرعان ما اكتشفت الدول المتقدمة اهمية الرعاية الصحية الاولية والتثقيف الصحي تحديدا، بعد ان ارهقت موازناتها، وفشلت أنظمتها الصحية في تعزيز الصحة العمومية لشعوبها، حيث نتج عن هذه السياسات حرمان ما يقارب نصف سكان الكرة الارضية من امكانية الحصول على الخدمات الصحية الأساسية، بما في ذلك الرعاية المتعلقة بالامراض السارية وغير السارية، ورعاية صحة الأمهات والاطفال، والصحة النفسية والإنجابية.

وقد فضحت «جائحة كورونا» الراهنة عجز الأنظمة الصحية للعديد من الدول المتقدمة التي انسحبت حكوماتها من مسؤوليات الرعاية الصحية الأساسية، وأداتها الرئيسية القطاع العام، في حين نجحت الدول التي لا يزال قطاعها الصحي العام يحظى بالرعاية والدعم.

وإذا ما اسقطنا هذه المعطيات على الواقع الصحي في بلادنا، يمكن القول بان التجربة الصحية الاردنية، ومنذ استقلال المملكة، اولت القطاع الصحي العام والرعاية الصحية الاولية اهتماما خاصا، انعكست نتائجه في تحسين المؤشرات الصحية العامة لمجتمعنا. وهي مؤشرات تعكس نجاح النظام الصحي الاردني، ليحتل الاردن، وباعتراف المنظمات الدولية ذات العلاقة بالصحة والطفولة، مكانة متميزة بين الدول من حيث الانجازات المتحققة، اضافة الى النجاحات في محاربة الاوبئة والامراض السارية القديمة منها والمستجدة، وقد اظهرت إجراءات الدولة في مواجهة وباء كورونا مدى الاحترافية والخبرة المتراكمة التي يختزنها نظامنا الصحي، وبخاصة في مجال الرعاية الصحية الاولية.

وكان التثقيف الصحي ولا يزال الوسيلة الفعالة والحيوية، والاقل كلفة في ترسيخ المفاهيم السليمة حول الصحة والمرض، مما ينعكس ايجابا على سلوكيات الفرد والمجتمع. وحسب المفهوم الفلسفي للصحة، فان جهود مقدمي الخدمة الصحية يجب ان تستهدف «علاج المريض لا المرض»(!). وهذا يعني الاهتمام بالمريض كانسان وكائن اجتماعي يتأثر بالمحيط والبيئة التي يعيش فيها، ويؤثر عليها، في علاقة عضوية تبادلية، وهذا ينطبق تماما على دور الفرد المحوري خلال انتشار الامراض والاوبئة.

لقد أظهرت التجربة العالمية في مواجهة وباء الكورونا المستجد دور التوعية والتثقيف الصحي في ترسيخ الالتزام بالسلوكيات الصحية السليمة النابعة من وعي وقناعة المواطن بأهميتها في الحفاظ على صحته وصحة اهله ومجتمعه. فإجراءات النظافة الشخصية والسلامة العامة، والعزل الذاتي والتخلي عن بعض العادات والممارسات الاجتماعية، التي تساعد في نقل المرض وسرعة انتشار عدواه تصب في المحصلة في طاحونة الجهود الكبيرة التي تبذلها الدولة بكافة أجهزتها ومؤسساتها، بهدف السيطرة على هذا الوباء، والعودة ببلادنا الى الحياة الطبيعية.

ورغم الانجازات التي تحققت، الا اننا ما زلنا بحاجة الى المزيد من العمل التوعوي في هذا المجال. ويقينا ان ذلك يتطلب حشد كافة الجهود الرسمية والشعبية، وانخراط وسائل الإعلام الجماهيري التقليدية والاجتماعية، والعاملين الصحيين، وجمعيات حقوق المرضى، والهيئات الاجتماعية والشبابية والنسوية، ومؤسسات المجتمع المدني وغيرها، في هذا الجهد الوطني العام.

نحن امام جائحة غير تقليدية، لا يمكن مواجهتها الا من خلال إجراءات جدية وصارمة تتناسب مع طبيعتها ومدى خطورتها على صحة المجتمع واقتصاده.

وسيبقى الرهان معقودا على وعي شعبنا، وقوة نظامنا الصحي، وكفاءة أجهزة دولتنا الراسخة. وسيتجاوز بلدنا هذه المحنة العابرة بقيادته الحكيمة، لنواصل معا مسيرة البناء والعطاء والتميز (!).

*رئيسة الجمعية الأردنية للتثقيف الصحي – عن “الدستور” الأردنية

عن Amer Hijazi

شاهد أيضاً

العرب وإسرائيل وبناء السلام الإيجابي

بقلم:د. ناجي صادق شراب الفرضية الرئيسية التي يقوم عليها البناء الإيجابي للسلام، هي العمل على …