الجدلية بين صاحب الأمر وصاحب الفكر في الوطن العربي

بقلم: الدكتور أحمد القديدي

هذه قضية أبدية أزلية تتغير بتغير العصور لكنها تظل هي ذاتها قائمة، أقصد بها طموحات الإنسان الطبيعية نحو الأفضل و مزيد الحرية و الكرامة و اصطدام تلك الطموحات بمستحقات الدولة و ضرورة مراعاة الشأن العام مما يجدد التصادم بين المثقف و الدولة و تنتج عنه مظالم و إكراهات بل و تفتح سجون و تسن قوانين الردع و القمع. وأنا بفضل الله كتب علي أن أعارض نظام الانفراد و الشخصانية مع بورقيبة ثم حملني بعض المسؤوليات فحاولت خدمة مبادئي في صلب حزبه لأنه لم تكن لدينا أحزاب ثم حين تفطن الخارج الاستعماري و الداخل العميل إلى ما نقوم به حول رئيس الحكومة محمد مزالي رحمه الله نفونا و شتتوا عيالنا و صبرنا لكننا لم نتنكر لمبدأ تفهم الجدلية بين صاحب الأمر و صاحب الفكر! و إن ما يعيشه العالم العربي من تناقضات و توتر و حدة و عنف لعله نتيجة التصادم بين الطموح الفردي للحريات و تمسك السلطة بالضوابط.

وكنت وما أزال عدوا للإيديولوجيات الجاهزة و الأفكار المتطرفة مهما كانت شعاراتها ومنطلقاتها لأنها في نظري تحجب الحق و تختزل الواقع و تجلب الخراب و تدمر الفضيلة وتلغي العقل. و الناظر اليوم إلى الأحوال العربية يدرك بأن تداعيات الإيديولوجيات المتطرفة و الشعارات المستبدة التي تعلقنا بها زمنا طويلا هي التي قادتنا إلى مواقع الوهن و الهزيمة.

وهذا الموقف لم يكن جديدا بالنسبة لي فقد نشرت مقالة باللغة الفرنسية في مجلة جون أفريك الباريسية في ايلول من عام 1969 أي منذ نصف قرن بعنوان المثقف والسلطة و فيه نفس المبادئ التي أدافع عنها بالأمس و اليوم و غدا، و كان ذلك قبل أن يولد أغلب هؤلاء الشباب الذين يريدون اليوم تلقيني و تلقين جيلي دروسا في الوطنية و حب تونس و معرفة التاريخ و الاعتبار به. إنني لا أدعي احتكار الحقيقة و لا أدعو غيري لاتباع منهجي و لا أرفض أية نصيحة أو رأي أو اعتراض و أنا جاهز لتغيير فكرة أو تعديل اقتراح إذا ما أقنعني مخاطبي بأني على خطأ. لكن أين الخطأ حين أشارك في برنامج تلفزيوني للحوار حول بعض الإشكاليات بين الحكومة الوطنية و فصائل من المجتمع المدني تطمح إلى فتح المزيد من فضاءات التعبير والرأي؟رغم أني أخالف بعضها في اللهجة المتشنجة و الكلام الجارح،و لعل بعض الناس يذكرون أنني حين كنت أشارك في برنامج حواري على قناة المستقلة في صيف 2001 و خرج أحد المتدخلين عن أدب النقاش و أساء بالكلام الجارح لرموز الدولة رددت الفعل و هددت بمغادرة البرنامج مما جلب لي سخط و شتائم هذا المتدخل.

ثم إن رسالة كل مثقف صادق هي الدعوة إلى المزيد من الحريات كما أن رسالة كل صاحب سلطة هي أن يلائم بين الحريات ومستحقات الأمن أي بين طموحات الفرد و حقوق المجموعة. وهذه التعادلية الأزلية ستبقى قائمة إلى الأبد بين صاحب الأمر وصاحب الفكر، و لكنها تختلف تطبيقا و تنفيذا من نظام إلى آخر حسب درجة النضج و الوعي و التراث الديمقراطي و حسب تركيبة المجتمعات الثقافية والعرقية و الطائفية و مخزونها التاريخي و موقعها الجغرافي، أي ما نسميه خصوصيات كل مجتمع في مسيرته نحو الإصلاح و الحكم الصالح و تفعيل المشاركة الشعبية.

وإن دولا مثل التي يجمعها المغرب العربي أو دول الخليج التي يجمعها مجلس التعاون بحمد الله تتشكل من الشعوب المتجانسة، و قد أكسب هذا التجانس أهلها الوداعة والاعتدال وطيب العيش و كانت هذه البلدان سباقة في الحقل الاجتماعي و التربوي مما حصنها من الهزات و العثرات.

و لكن الادعاء بأن الحديث حول تطوير أو تعديل بعض الإنجازات والمكاسب هو من قبيل خيانة الوطن و أن الرأي الحر يتنافى مع الوفاء للوطن هو ادعاء باطل و تضليل لا يفيد الدولة و لا يخدم مصالحها و لا يصب في خانة المستقبل لأنه تحت ستار الولاء إنما يوصد أبواب الحوار و يزرع الحقد و البغضاء و يمنع تأليف القلوب حول الدولة التي تبقى دولة كل التونسيين مهما كانت اختلافاتهم ما داموا يحترمون القانون و لا يسيئون للغير.

و إن ما يدور من حرب أهلية في ليبيا و ما انحرف من بعض دول الخليج نحو العدوان و الحصار لعلها من تبعات هشاشة الدولة و تدخلات الأجانب ذوي المصالح المشبوهة في تقرير مصائر الدول.

وإنني في كل مراحل حياتي التي منها المنعشة ومنها الصعبة سواء في مرحلة السلطة أو في مرحلة المنفى، حرصت على انتهاج الاعتدال والثقة في أن الحقيقة غاية لا تدرك وأن اختلاف الرأي بين الناس ليس لعنة بل هو رحمة و أن الوفاق الوطني بين كل أبناء الشعب هو الضامن للسلام المدني و الأمن الحقيقي.

و قد كتبت في الصحف و في كتاب مذكراتي بأن الرئيس بن علي أنقذ البلاد عام 1987 مما كنا نخشاه من شرور الفوضى و انهيار الدولة و قلت هذا الكلام شخصيا للرئيس بن علي حين استقبلني في قصر قرطاج يوم 9 شباط 2000 و لا رأي لي غير هذا إلى اليوم.

أرجو من الله تعالى أن يسود علاقات المثقف بالسلطة احترام متبادل وهو أمر ليس بالعزيز على تلك النخب التي تحكم وتلك النخب التي لا تحكم. لأن كل بلد عربي عائلة واحدة وستبقى عائلة واحدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.

عن “الشرق” القطرية

عن Amer Hijazi

شاهد أيضاً

العرب وإسرائيل وبناء السلام الإيجابي

بقلم:د. ناجي صادق شراب الفرضية الرئيسية التي يقوم عليها البناء الإيجابي للسلام، هي العمل على …