هل خرب بيت الولايات المتحدة حقاً

بقلم: د. أحمد رفيق عوض

شهدنا في القرن العشرين انتهاء عدد من الإمبراطوريات إما بالحرب المباشرة أو بالتفكك الداخلي أو كليهما، إذ انهارت الإمبراطورية العثمانية بالحرب والحصار والفساد والانعزال عن العالم، وانهارت العسكرتاريا اليابانية والفاشية الألمانية والقومية الإيطالية، وكذلك تآكلت بريطانيا الرأسمالية البروتستانتية والرأسمالية الفرنسية الكاثوليكية، وانهارت روسيا الشيوعية التي اعتقدت أنها وصلت إلى نهاية التاريخ، وورث كل ذلك رأسمالية أمريكية تحولت بسرعة إلى إمبريالية عولمت المال والإنتاج والأفكار وحتى الأمزجة، وقد اعتمدت في ذلك على السلاح غير المسبوق، الذي تحول إلى أهم أشكال الإنتاج وأكثرها ربحاً وأقدرها على فرض النفوذ، حتى أنها جعلت من مجرد ورق مطبوع عملة عالمية.

شهدنا في القرن العشرين ثورات غيّرت وجه العالم إلى الأبد، فقد انشطرت الذرة وتم تجميعها من جديد، وتم استنساخ الخلايا، وتغيرت وسائل الاتصال بحيث هزمت الزمان والمكان، وأصبح الذكاء الاصطناعي يهدد المجتمعات من حيث الوظائف والسكن والصحة والصناعة، ولم تعد الكرة الأرضية تكفي للمواجهة والمنافسة والصراع، فانتقل الإنسان إلى الفضاء يُعسكره ويُسممه ويحتله أيضاً. وفي القرن العشرين أيضاً رأينا انهيار القوميات والأفكار والأيديولوجيات، ورأينا كيف تفكك العرب إلى قوميات وجمهوريات متناحرة، ورأينا كيف تم خداع المواطنين اليهود في أصقاع الأرض، وتحولوا من خياطين وصائغين ومدرسين إلى محاربين في كيان لم يتوقف عن الحرب منذ أُعلن إنشاؤه عام 1948.

هذا يعني أن التاريخ لا يتوقف عند جماعة أو دولة أو فكرة، مصداقاً لقوله تعالى “وتلك الأيام نداولها بين الناس”، فالدول والحضارات مجرد تداول للإرث والقوة ووسائل الإنتاج، لا تتوقف شعلة الحضارة على أحد أو جماعة، بل هي شعلة متنقلة دوارة.

أقول ذلك كله لأصل إلى المشاهد التي رأيناها يوم الأربعاء الماضي في الكونغرس الأمريكي، وهي مشاهد تُذكر بحصار الدوما الروسي وقصفه بالدبابات سنة 1991. المتظاهرون، أو الثوار، أو المتمردون الأمريكيون القادمون من الأطراف، والممتلئون غضباً ورفضاً لأمريكا الملونة والليبرالية والعاجزة، الذين يعتقدون أن أمريكا البيضاء البروتستانتية المنعزلة والمكتفية ستضيع من بين أيديهم، وأنهم لن يحكموها مرةً أُخرى لأسباب ديموغرافية وطبقية ودينية، هؤلاء الغاضبون أعلنوا أنهم يرفضون الديمقراطية الأمريكية وقوانينها ويرفضون مؤسسات الدولة العميقة، ويحتجون على سياسات المؤسسات المالية المعولمة، ويرفضون حكم الملونين والاشتراكيين واليساريين الأمريكيين. وعلى الرغم من أن معظم الجهات رفضت تسميتهم بالثوار، فهم ليسوا من العالم الثالث، ولا تستطيع مراكز الأبحاث ولا صناع القرار السياسي ولا الإعلامي أن يشرعنوا حراكهم أو يتبنوا مطالبهم، إلا أن هذا الحراك عكس عمق الأزمة التي يعيشها النظام السياسي والطبقي والاجتماعي الأمريكي، وهي أزمة ثقافية وعرقية وديمغرافية واقتصادية أيضاً، بما يدل على أن ترامب الذي بدا لكثيرين أنه متهور وشعبوي ومهرج إلى حد كبير إنما يعكس ما يدور في أعماق أمريكا من نزعات للسيطرة واختطاف الحكم والثورة على النظام السياسي الذي يدرك عمق أزمته المالية والسياسية والاجتماعية.

وباختصار شديد، فإن اقتحام الكونغرس بهدف تغيير نتيجة الاقتراع مجرد بداية لتغيرات وحراكات اجتماعية وسياسية وأمنية قد نشاهد نتائجها سريعاً. الإمبراطوريات الكبرى لا تنهار دفعةً واحدةً بالضرورة، فهي تأخذ وقتاً قد يطول أو يقصر. ولن تكون الولايات المتحدة فوق التاريخ أو بقرة مقدسة لا يسري عليها منطق الأشياء، بل هي دولة عظمى مثل كل الدول التي عاشت طفولتها وشبابها، وهي الآن تدخل طور الشيخوخة. هذه هي باختصار نظرية أستاذنا وحبيبنا ابن خلدون، الذي أقام نظريةً على عصبيةٍ قبليةٍ أو دينية، وهي غير موجودة بالذات في دولة تضم بين جنباتها مئات القوميات والديانات والمرجعيات. ولن تكون الدولة الحديثة قادرةً على تقديم كل الإجابات، وهذا ما نراه ليس في الولايات المتحدة فقط، وإنما في كل دول الغرب تقريباً.

عن Amer Hijazi

شاهد أيضاً

العرب وإسرائيل وبناء السلام الإيجابي

بقلم:د. ناجي صادق شراب الفرضية الرئيسية التي يقوم عليها البناء الإيجابي للسلام، هي العمل على …