ماذا بعد صدور قرار المحكمة الجنائية الدولية

بقلم: د. عبدالله أبو عيد

لمحة عن المحكمة الجنائية الدولية:

لكي يفهم القار ئ مغزى وأهمية القرار الصادر عن دائرة ما قبل المحكمة (PRE- TRIAL CHAMBER)”

التي تدعى أيضا الدائرة التمهيدية” الذي أصدرته في 5/2/2021 لا بد له من تقدمة عن المحكمة وتأسيسها وتركيبتها واختصاصها.

بدأ المجتمع الدولي في التفكير في انشاء محكمة جنائية دولية بعد عدة سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية و بعد محكمة

نورنبيرغ لمحاكمة مجرمي الحرب النازيين، وذلك حين أصدرت الجمعية العمومية للالمم المتحدة عام 1951 قرارها بتشكيل

لجنة من سبعة عشر دولة لصياغة معاهدة انشاء المحكمة الجنائية الدولية، التي تم اعداد مشروعها عام 1953، وقد أرجئ

اقراره الى حين انتهاء لجنة القانون الدولي من اعداد مشروع تقنين الانتهاكات، الا ان هذا التقنين (اي مشروع القانون) أجل

بسبب عدم احتوائه على تعريف لجريمة (العدوان)، وبناء عليه تم تعليق النظر في مشروع النظام الاساسي للمحكمة عام

1953 ومشروع تقنين الانتهاكات عام 1954 إلى حين التفاهم على وضع تعريف لجريمة العدوان. ولصعوبة مهمة تعريف

العدوان، اذ أن الدول الاستعمارية وعلى رأسها الولايات المتحدة الامريكية، كانت قد أنشأت حلف شمال الاطلسي (الناتو)،

واحدى اهم واجباته التدخل في شؤون الدول الصغيرة والضعيفة والتصدي لخطر الاتحاد السوفياتي تحت ذريعة الدفاع عن

النفس.

على الرغم من ذلك أصدرت الجمعية العامة عام 1974 بالاجماع تعريفا لجريمة العدوان، اقتصر على نوع واحد من العدوان

وهو العدوان المسلح، مع تجاهل ذلك التعريف الانواع الاخرى من العدوان، وعلى رأسها “العدوان الاقتصادي”. الا أن ذلك

التعريف لم يرقى إلى مستوى “القانون الدولي الملزم” للدول وللجماعة الدولية، لكونه صدر عن الجمعية العامة وليس بموجب

اتفاقية دولية ملزمة لاطرافها من الدول.

وفي عام 1989 قامت لجنة القانون الدولي بالنظر في موضوع انشاء محكمة جنائية دولية لمحاكمة تجار المخدرارت. وفي

نفس الوقت بدأت لجنة من الخبراء تابعة لمنظمة غير حكومية، يرأسها البروفسور المصري الاصل، شريف بسيوني، استاذ

القانون بجامعة دي بول ( DE PAUL) في شيكاغو، بإعداد مشروع آخر لانشاء محكمة جنائية دولية عام 1990. وتم اقرار

هذا المشروع في مؤتمر روما الدبلوماسي في (17 يوليو/ تموز 1998)، وتم الاتفاق على أن تدخل اتفاقية المحكمة حيز

النفاذ بعد ستين يوما من تصديق الدولة رقم 60 عليه، وهكذا اصبح النظام الأساسي للمحكمة، اي اتفاقية روما لعام 1998 نافذ المفعول بتاريخ 1/7/200،2 حيث نص على أن اختصاص المحكمة سوف يشمل فقط النظر في الجرائم التي حدثت وقائعها بعد تاريخ 1/7/2002.

دولة فلسطين والمحكمة الجنائية الدولية:

لم تستطع فلسطين الانضمام الى عضوية المحكمة الا في عام 2015 اذ أن طلباتها السابقة رفضت تحت دعوى انها

ليست دولة. ومن المعلوم ان الجمعية العامة للامم المتحدة صادقت على اعتبار فلسطين دولة مراقب في الجمعية العامة

بموجب قرارها الصادر في 29/11/2012 بأغلبية كبيرة تزيد على 90 % من الدول المصوتة، حيث صوتت لصالح القرار

138 دولة وضده 9 دول فقط، تشمل الولايات المتحدة واسرائيل واستراليا وكندا بالاضافة إلى خمس دول صغيرة لا ترى

على الخارطة الا بواسطة المجهر، مثل توفالو، وتونغا، وجزر العذراء، كما امتنعت 35 دولة معظمها دول اوروبية، عن

التصويت.

وحيث انه من المعروف انه بموجب نص المادة (18) من ميثاق الامم المتحدة، التي تتعلق بطريقة تصويت الدول الاعضاء

في الجمعية العامة على الامور الهامة، تنص على وجوب حصول الامور الهامة كقبول الدول الجدد، على ثلثي عدد الدول

الحاضرة والمصوتة فعلاً، لذلك فإن التصويت لصالح قبول فلسطين “كدولة مراقب” في المنظمة الدولية حاز على حوالي

92 % من اصوات الدول الاعضاء، وهو عدد يزيد كثيرا عن عدد الدول التي كانت آنذاك تعترف بإسرائيل.

تقدمت فلسطين عام 2014 لعضوية المحكمة الجنائية الدولية، بعد توقيعها على اتفاقية روما لعام 1998 المنشئة للمحكمة،

وتم قبولها كعضو طرف في النظام الاساسي للمحكمة بتاريخ 1/4/2015، وبذلك صار من حق فلسطين اللجوء إلى المحكمة

بتقديم الدعاوي المتعلقة بجرائم حدثت بعد تاريخ 2/6/2015 أي بعد يوم من مرور ستين يوما على تاريخ قبولها وانضمامها

إلى المحكمة بموجب نص المادة 11( 2 )معطوفة على نص المادة 126( 2 )من النظام الاساسي للمحكمة. الا ان فلسطين كانت في أواخر عام 2014 قد تقدمت بدعوى ضد اسر ائيل قبل صيرورتها عضوا في المحكمة استنادا لنص الفقرة 3 من المادة (12) من النظام الاساسي للمحكمة، وهكذا اصبحت فلسطين عضوا في الجمعية العامة للمحكمة إلى جانب (122 ) دولة من انحاء العالم. الا ان كلا من الولايات المتحدة واسرائيل وروسيا والصين لم تنضم الى المحكمة.

وقد حاولت الولايات المتحدة القيام بإجراءات لشل المحكمة ومنعها من أن تشمل اعمالها ونطاق صلاحياتها كافة الدول،

خاصة منع المحكمة من النظر في قضية، متهم فيها مواطن من دولة ليست عضوا في المحكمة ، بأن بذلت جهودها لاصدار مجلس الامن القرار رقم 1422 بتاريخ 12 تموز 2002 الذي ينص على امتناع المحكمة لمدة 12 شهرا، بدءا من تاريخ صدور القرار المذكور، من قبول أية دعوى ضد مواطن أو مواطنين من دولة أو دول ليست أعضاء في النظام الاساسي للمحكمة، كما قامت الولايات المتحدة بتوقيع اتفاقيات مع حوالي 40 دولة تتعهد فيها تلك الدول بأن لا تقاضي الجنود الامريكيين الذين يرتكبوا جرائم خطيرة.

إلا أن المنظمات الدولية الانسانية نددت بهذا القرار وطالبت بعدم تجديده لما يسببه من ضرر كبير لمبادئ ونصوص المحكمة، ولما يتسبب به من افلات مواطني الدول غير الاعضاء في المحكمة من العقاب على ما يرتكبونه من جرائم خطيرة.

وبسبب الضغوط الكبيرة للعديد من منظمات حقوق الانسان لم يستطع مجلس الامن الدولي تكرار إصدار قرار آخر بهذا الصدد، أو تمديد سريان القرار الاول. لذلك نرى أن المسؤولين الاسرائيليين في ردهم على قرار الدائرة التمهيدية الصادر في 5/2/2021 ادعوا بأنه لا يمكن للمحكمة محاكمة أي متهم اسرائيلي بسبب أن اسرائيل ليست عضوا في المحكمة!!

تجدر الاشارة هنا إلى أن المحكمة تعتبر مختصة بمحاكمة المواطنين الاسرائيليين المتهمين باحدى الجرائم الاربعة الوارد النص عليها في المادة الخامسة من نظامها الاساسي وهي:

1 -جريمة إبادة الجنس البشري (Genocide)

2 -الجريمة ضد الانسانية.

3 -جرائم الحرب.

4 -جريمة العدوان.

وسبب اختصاص المحكمة بمحاكمة مسؤولين اسرائيليين هو نص المادة (12) من النظام الاساسي، إذ تنص فقرتها الثانية

على أنه يجوز للمحكمة ان تمارس اختصاصها اذا كانت واحدة أو أكثر من الدول التالية طرفا في النظام الاساسي وهي :

أ- الدولة التي وقع في اقليمها السلوك قيد البحث… الخ.

ب-الدولة التي يكون الشخص المتهم بالجريمة أحد رعاياها.

لذلك فان دولة فلسطين التي وقع في اقليمها السلوك المكون للجرائم، يمكنها حسب هذا النص التقدم بشكاوى للمحكمة، لمحاكمة المتهمين، حتى ولو كانوا مواطنين في دولة اخرى وليست عضوا في المحكمة ، ما دامت تلك الدولة لم تحاسب مواطنيها مرتكبي تلك الجرائم وغير راغبة في ذلك حسبما تنص عليه المادة 17 من النظام الاساسي .

اما ان يكون هؤلاء المتهمين مواطنين دولة تحتل اقليم دولة فلسطين، ومشمولين بحماية دولة الاحتلال، فان مهمة المحكمة تزداد أهمية للنظر في ما يمكن ان يشكل جرائم خطيرة ارتكبوها، حتى ولو كانوا ذوي حصانة في بلدهم الاصلي، فالنظام الاساسي للمحكمة ينص في مادته (27 )على ان الصفة الرسمية للشخص المتهم، مهما كانت رفيعة المستوى، لا تعفيه من المسؤولية الجنائية في حال ثبوتها عليه، وان الحصانة التي يتمتع بها هذا المسؤول في بلده لا تحول دون مساءلته جنائيا.

كما وان المادة (29 )تنص على عدم سقوط الجرائم المنصوص عليها في النظام الاساسي بالتقادم.

وتجدر الاشارة إلى أن المسؤولية بموجب النظام الاساسي تقتصر على الاشخاص (الطبيعيين) اذ لا تشمل المحاكمة الدول نفسها بموجب المادة (25) من النظام الاساسي.

لكل هذه الاسباب فان اختصاص المحكمة في القضايا المرفوعة اليها من فلسطين يعتبر صحيحا ووفقا لنصوص النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية، بل ويمكنه أن يشمل أيضا عددا من الافعال المكونة لجرائم خطيرة أخرى كالتي نصت عليها المادة الخامسة من النظام الاساسي، وبخاصة الافعال التي حدثت بعد سريان مفعول النظام الاساسي بحق دولة فلسطين كعضو في النظام الاساسي للمحكمة، بل ويمكن أن يشمل أيضا العديد من الجرائم الاخرى، وخاصة الخطيرة والمستمرة مثل: هدم المنازل، التهجير المباشر والمبطن، أي ما يطلق عليه التهجير الصامت، وجرائم تعذيب الاسرى والمعتقلين، وبخاصة ما يتعلق بالاطفال والقاصرين، وجرائم المستوطنين اليومية والمتزايدة في خطورتها، وجرائم الحرمان من جمع شمل العائلات، وغيرها من المخالفات الخطيرة المستمرة. وفي هذا الصدد فإن فلسطين كانت في نهاية عام 2014 قد تقدمت بطلب قبل صيرورتها عضوا في النظام الاساسي للمحكمة استنادا لنص الفقرة (3) من المادة (12) من النظام الاساسي، للنظر في الافعال الخطيرة المرتكبة من الجيش الاسرائيلي في صيف عام 2014 ضد قطاع غزة وسكانه المدنيين وممتلكاتهم، إذ أن هذه الفقرة من المادة (13) تفسح المجال لدولة ليست عضوا في النظام الاساسي للمحكمة، بتقديم طلب تعلن فيه أنها تقبل بممارسة المحكمة لاختصاصها فيما يتعلق بالجريمة قيد البحث، وتتعاون مع المحكمة دون تأخير أو استثناء. لذلك نستطيع الجزم بأن قرار المحكمة المشار إليه أعلاه، انما يعتبر سليما ومتفقا مع نصوص النظام الاساسي، وأنه يجب التأكيد على أنه يتوجب على الجانب الفلسطيني أن لا يستهين بما سوف ياتي من عقبات، قد تصل إلى مستوى خطير

من الاجراءات الإسرائيلية، ومن حلفاء إسرائيل الدوليين، مثل التهديدات والضغوط على قضاة المحكمة والمدعي العام، كما وأن انتهاء صلاحيات المدعية الحالية بنسودا في صيف عام 2021 سيأتي بمدع عام جديد قد يكون من انصار اسرائيل. لذلك علينا عدم الاستهانة بالخصم، واتقان عملية تقديم البينات والشهود والاستعانة بأبرز الخبراء في المواضيع ذات العلاقة القانونية والفنية والعسكرية وغيرها دون تهاون أو تراخي.

• ردود فعل اسرائيل المتوقعة:

أود هنا أن أؤكد للمواطنين بأن قرار الدائرة الابتدائية الصادرة في 5/2/2021 انما يعتبر الخطوة الاولى في مشوار الالف

ميل، خاصة وأن المحكمة بطيئة في اجراءاتها، والخصم متمكن وذو علاقات دولية متشبعة ومنظمة. ولا بد لنا من ايضاح

بعض ردود فعل الحكومة الاسرائيلية المتوقعة والمحتملة وأهمها:

1 -الاستفادة من نص المادة (63) من النظام الاساسي التي تنص على أنه “يجب أن يكون المتهم حاضرا في اثناء المحاكمة،

وبالتالي فإنها تستمر في مقاطعة المحكمة وتمنع كافة المتهمين من الحضور في المحاكمات، وكذلك الامتناع عن حضور

التحقيق والاستجواب من قبل الادعاء العام. وبذلك لن تستطيع المحكمة السير في اجراءات المحاكمة بناء على نص المادة

(63 )المشار إليها أعلاه. الا أنه ينشأ عن هذا السلوك الاسرائيلي، أن اسرائيل سوف تحرم من حق استئناف أية قرارات صادرة عن المحكمة أو أحد

فروعها.

على الرغم من ذلك، فإن هناك سيفا مسلطا على رؤوس المتهمين سيظل ماثلا أمامهم، قد يمنع معظمهم من السفر، خاصة إلى

دول أعضاء في النظام الاساسي للمحكمة، حيث ان النظام الاساسي يلزم تلك الدول بإلقاء القبض عليهم وتسليمهم للمحكمة، كما هو وارد في الباب التاسع من النظام الاساسي للمحكمة وخاصة في المواد (86-90 ) من ذلك النظام.

زيادة على ذلك فان المحكمة تتعاون مع الانتربول بموجب اتفاقية ثنائية، وبذلك يستطيع الانتربول القاء القبض على أي متهم وتسليمه للمحكمة خاصة إذا سافر ذلك المتهم إلى الخارج.

الا انه من الضروري الاشارة إلى ان هذه النصوص تظل نظرية في معظم الاحوال، لكون اسرائيل تتمتع بعلاقات دولية واسعة وبلوبيات سياسية متنفذة، تستطيع تقديم الحماية والمساعدة لها.

2 -تستطيع اسرائيل الاستمرار في الادعاء بأن فلسطين ليست دولة، وذلك لدى تعيين مدع عام جديد. اي انها تستطيع، ولو، بصورة سياسية خارجة عن نصوص النظام الاساسي، لذلك يجب بذل الجهد مع كافة الدول الاعضاء، وبخاصة الصديقة منها، لاختيار مدع عام جديد محايد ويتمتع بمصداقية وسمعة حسنة.

3- سوف تحاول حكومة اسرائيل محاكمة بعض المتوقع اتهامهم من الجنود والضباط محاكمة صورية، والحكم عليهم بأحكام مخففة ثم العفو عنهم بعد شهور، الا انني اعتقد بأن هكذا حيلة ستكون متأخرة، إذ أن الوقت قد تأخر على هكذا محاكمات، وبذلك تنطبق نصوص المادة (17) من النظام الاساسي، التي تجعل محاكمة المتهمين من اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بسبب عدم رغبة الدولة ذات العلاقة في محاكمتهم أو بسبب عدم قدرتها على ذلك.

4 -ادعى رئيس الوزراء نتنياهو بان اسرائيل دولة ديمقراطية ولها نظام قضائي مستقل ومميز في رفعته ورقيه.

لذلك فإن الواجب على المسؤولين الفلسطينيين تقديم العديد من الامثلة على عدم التحقيق في بعض الجرائم أو اغلاق الملفات بحجة عدم وجود أدلة، أو على قرار المحكمة العليا في اسرائيل عام 1999 المتعلق بالسماح باستعمال سلطات الامن بعض أنواع التعذيب في بعض الحالات، علما بان كلا من الاتفاقيات الدولية لمنع التعذيب لسنة 1984 والاتفاقية الاوروبية لمنع التعذيب لسنة 1987 تنصان على ” تجريم كافة أنواع التعذيب في كافة الظروف والاحوال بدون استثناء”

وبخصوص اعتبار اسرائيل دولة ديمقراطية، نشير إلى أن عددا من ابرز الدول الديمقراطية قامت ليست فقط بالتعذيب، بل بابادة بعض المجموعات الاثينية، والامثلة كثيرة عبر التاريخ الانساني القديم والمعاصر.

5 -أما ادعاء السلطات الإسرائيلية بان قرار المحكمة المذكور هو قرار سياسي، فذلك مردود عليها بان كافة إجراءات المحكمة كانت وفقا لنصوص النظام الأساسي للمحكمة، بعد تأكدها من حدوث مخالفات جسيمة ضد المواطنين الفلسطينيين تشكل بعض الجرائم التي تختص المحكمة بالنظر فيها بموجب المادة الخامسة من نظامها الأساسي.

عن Amer Hijazi

شاهد أيضاً

العرب وإسرائيل وبناء السلام الإيجابي

بقلم:د. ناجي صادق شراب الفرضية الرئيسية التي يقوم عليها البناء الإيجابي للسلام، هي العمل على …