القدس والانتخابات ومستقبل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي

بقلم العميد: أحمد عيسى*

قطع الفلسطينيون شوطاً طويلاً في التحضير للانتخابات التشريعية والرئاسية وتلك الخاصة بالمجلس الوطني، حيث يستعد الشعب الفلسطيني في مناطق الدولة الفلسطينية الموعودة بعد أن انتهت فترة الترشح والاعتراض والطعون، للتوجه إلى صناديق الاقتراع يوم السبت الموافق 22 أيار المقبل، إذا ضمن الفلسطينيون إجراء الانتخابات في مدينة القدس عاصمة الدولة الموعودة، وذلك لاختيار القائمة/ القوائم التي يرى الناخبون وفقاً لمعاييرهم الخاصة أنها الأقدر على توفير احتياجاتهم وتلبية تطلعاتهم وتحقيق آمالهم بالحرية والاستقلال.

وبينما بلغت استعدادات الفلسطينيين للانتخابات نقطة الذروة التي اتجهت فيها أنظارهم ومعهم العالم بأسره نحو القدس وسط تصميم فلسطيني رسمي وشعبي على عدم إجراء الانتخابات بدون القدس، صعدت حكومة إسرائيل (التي أصبحت في نظر كثير من اليهود سواء المواطنين في إسرائيل، أم الذين يعيشون خارجها دولة تمييز عنصري (أبارتهايد)، من إجراءاتها التهويدية والاستيطانية في القدس الشرقية، كما سمحت بزيادة وتيرة اقتحام الجماعات الدينية المتطرفة للمسجد الأقصى المبارك، بما في ذلك قطع الكهرباء عن مكبرات الصوت لمنع رفع الأذان خشية إزعاج اليهود الذين يحتفلون في باحة سور البراق بذكرى استقلال الدولة التي تعني نكبة الفلسطينيين.

وقد وصلت الإجراءات التهويدية التي تفوح بالعنصرية ذروتها يوم الخميس الموافق 22 من الشهر الجاري عندما نظمت جماعة من تنظيم (لهافا) اليهودي المتطرف الذي أسسه العام 1999 أحد تلاميذ مئير كهانا، مؤسس حركة كاخ العنصرية المتطرفة، تظاهرة استفزازية في باب العمود لإثبات أن القدس وكل فلسطين ملك خالص لليهود وفقاً لتصريحات أحد منظمي التظاهرة، وبالتزامن مع ذلك منع وزير الأمن الداخلي (أوحانا) تجمع الشباب المقدسي على مدرجات باب العمود، هذا التجمع الذي يعتبر من تقاليد شهر رمضان المبارك في القدس الشرقية، الأمر الذي دفع أهل القدس شيباً وشباناً إلى الخروج للشوارع في كل أحياء القدس والاشتباك بالأيادي مع قطعان المستوطنين والجماعات المتطرفة التي أعدت نفسها جيداً بالترتيب مع شرطة أوحانا التي أصبحت تشبه في سلوكها شرطة النظام العنصري في جنوب أفريقيا في فترة حكم النظام العنصري الأبيض دفاعاً عن القدس والمسجد الأقصى.

صحيح أن الحملة الانتخابية في فلسطين لم تبدأ بعد، إذ من المقرر أن تبدأ في الأول من شهر أيار المقبل وفق أحكام قانون الانتخابات النافذ في فلسطين، إلا أن ما جرى ويجري في القدس يرسم محددات ويحدد محتوى الدعاية الانتخابية للقوائم الانتخابية التي تنشد الفوز بالانتخابات واحتلال مكانة تحت قبة البرلمان، والأهم أن ما يجري بالقدس ينذر باندلاع موجة وربما انتفاضة ثالثة في الأراضي الفلسطينية، الأمر الذي يمكن ملاحظته في سرعة اندلاع مواجهات بين الفلسطينيين وجيش الاحتلال في معظم أرجاء الضفة الغربية، علاوة على مبادرة فصائل المقاومة في غزة إلى إطلاق عشرات الصواريخ نحو مستوطنات غلاف غزة مساء يوم الجمعة الموافق 23/ 4/ 2021.

في الواقع تختلف هذه الهبة في القدس عن سابقاتها من الهبات، الأمر الذي يكسبها أهمية تفوق أهمية ما سبقها، ويعود ذلك لعدة أسباب، منها: توقيت حدوثها، ثم أطرافها، وأخيراً ما كشفته من حقائق يتوجب على الفلسطينيين التوقف أمامها وتطوير ما يلزم من تدخلات بناء عليها.

فمن حيث التوقيت تتزامن هبة القدس مع ازدياد وتيرة التحولات التي تجري في البيئة الاستراتيجية الفلسطينية (الدولية والإقليمية والمحلية)، إذ من الناحية الدولية يقف النظام الدولي على أعتاب فترة تاريخية تنطوي على مخاطر وتهديدات للشعب الفلسطيني وقضيته، ربما تفوق في حجمها ما تنطوي عليه من فرص وآمال، حيث من جهة ينهار النظام العالمي القديم الذي ظلم الفلسطينيين كثيراً، ومن جهة أُخرى ما زال النظام العالمي الجديد لم يقف على قدميه بعد، ولا يبدو أن النظام الجديد عازم حقاً على تصحيح ما مضي وإنصاف الشعب الفلسطيني، الأمر الذي يجعل من التموضع بصورة صحيحة بين التيارات المتلاطمة لهذا الواقع العاصف بمثابة الضمان الوحيد لبقاء شعب صغير وضعيف ووحيد كالشعب الفلسطيني.

أما من الناحية الإقليمية فقد فقد الشعب الفلسطيني بعضاً من عمقه الاستراتيجي من خلال انحياز بعض من الأنظمة العربية الرسمية لصالح الرواية الصهيونية في فلسطين والقدس على حساب النكبة الفلسطينية.

ومن الناحية المحلية فقد اندلعت أحداث القدس عشية الانتخابات التي انتظرها الشعب الفلسطيني طويلاً وسط قناعات متزايدة في أوساط قطاعات واسعة من الشعب بأن النظام السياسي الفلسطيني، سواء ذلك المتمثل بالسلطة الفلسطينية، أم ذلك المتمثل بمنظمة التحرير الفلسطينية، لم يعد يعكس واقع الشعب، كما لم يعد قادراً على تلبية احتياجات الشعب وتطلعاته، وفوق ذلك أن تشكيك الشعب بشرعية هذا النظام آخذة بالتزايد.

أما من حيث طبيعة الأطراف المنخرطة في هذه الجولة من الهبات، فليس خافياً أنها تختلف عن سابقاتها من الجولات، إذ لم يعد الفلسطينيون في مواجهة مع أفراد الشرطة والجيش وما يُسمى “حرس الحدود” فقط، بل علاوة على ذلك أصبحت مواجهتهم مع قطعان المستوطنين وأفراد المنظمات اليهودية العنصرية التي أصبحت مشاركة في رسم السياسة الخارجية للدولة بعد جولة الانتخابات الأخيرة في إسرائيل.

ومن حيث الحقائق التي أبرزتها هذه الهبة، فهي تنقسم إلى قسمين، يتعلق الأول بواقع إسرائيل الاستراتيجي ومكانة اليمين المتطرف في رسم سياسة الدولة، ويدور القسم الثاني حول مكانة القدس والرواية الفلسطينية في تحديد الاستراتيجية الفلسطينية في قادم الزمن.

وفيما يتعلق بواقع إسرائيل الاستراتيجي فلم يعد بإمكان الدولة إخفاء فشلها في مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية، اعتماداً على الجيش وحده الذي أُنيطت به مهمة حسم الصراع مع الفلسطينيين وفي الوقت نفسه حماية حدود الدولة من التهديدات الخارجية، ولذلك رأينا تدخل الشعب، لا سيما قطعان المستوطنين بقيادة جماعة كهانا، إلى جانب الجيش والشرطة في حسم الصراع مع الفلسطينيين بالقوة، الأمر الذي يعني أننا سنشهد المزيد من المواجهات بين الفلسطينيين وقطعان المستوطنين بحماية الجيش والشرطة في القدس وعلى إمتداد الضفة الغربية في مقبل الأيام.

وحول القسم الثاني من الحقائق التي كشفتها هبة القدس، فيتجلى أبرزها وأكثرها وضوحاً في مكانة القدس والرواية الفلسطينية العروبية في فكر القوى السياسية الفلسطينية التي تسعى لكسب ثقة الشعب في جولة الانتخابات المقبلة والحصول على تفويض منه لقيادته خلال السنوات الأربع المقبلة، ففاقد البصيرة من لم يبصر بأم العين أن الهبة العفوية في القدس حددت بصدق ووضوح نوع القيادة التي يريدها الشعب وهي بلا شك القيادة التي تجعل من القدس والرواية الفلسطينية العروبية في فلسطين مركز فكرها والناظم لسلوكها، فبوركت القدس ومن يحج إليها، وبئست كل العواصم التي تخلت عن القدس ومن يحج إليها.

* المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي

عن Amer Hijazi

شاهد أيضاً

العرب وإسرائيل وبناء السلام الإيجابي

بقلم:د. ناجي صادق شراب الفرضية الرئيسية التي يقوم عليها البناء الإيجابي للسلام، هي العمل على …