“قواعد قانونية وأخلاقية لا بد من التقيد بها عند نشر صورة الشهداء بما يضمن احترام الخصوصية والحق بالصورة وحرم الميت من جهة، وضمان القيمة القانونية من جهة أخرى، وفقاً ما نصت عليه الأراء القانونية ومبادئ حقوق الإنسان”.
بقلم: ماجد العاروري خبير في القوانين الاعلامية وحقوق الانسان..
يجري حالياً نقاش موسعٌ في المجتمع الفلسطيني حول ظاهرة نشر صور الشهداء والاشخاص المصابين في وسائل الاعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي،وإن كان ذلك يلتقي وروحَ القانون واخلاقياتِ مهنة الصحافة خاصة حين تحمل هذه الصور طابعاً شخصياً أو تتسم بدرجة عالية من الخصوصية تفوق قيمتها الأخبارية.
ما يجري الآن من نقاش ليس معزول عن اجراءات تتعلق بنشر صور اتخذت على المستوى العالمي كالتفجيرات التي وقعت مؤخرا في باريس وراح ضحيتها العشرات او حادث انتحار شقيقتين في الأردن، وغير ذلك من الأحداث. ففي حادث باريس امتنعت وسائل الاعلام بمجملها عن نقل صور الضحايا بصورة مطلقة، وفي الاردن اتخذت نقابة الصحفيين اجراءات ضد وسائل اعلام نشرت صور الشقيقتان بعد وفاتهما بسبب المساس بالخصوصية، وهنا في فلسطين يحتدم النقاش حول صحة نشر صور الشهداء الشخصية وصورهم في ثلاجات الموتى وأحياناً صورهم مضرّجين بدمائهم أو صور لأجسادهم المهشمة بل وصل الامر في بعض الأحيان الى نشر صور لبعضهم وهم يحتضرون، دون ادراك ان كانت الصورة هي حق لصاحبها أم هي حق لمصورها.
ان بناء قاعدة مهنية لنشر صور الشهداء منوط – من وجهة نظري – بأربعة محددات حقوقية تناولت القوانين والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان وهي (1) حماية الخصوصية، (2) الحق في الصورة، (3) حرمة الموتى واخيراً (4) القيمة الإخبارية للصورة وحق الجمهور بالمعرفة.
من حيث الخصوصية لا توجد صعوبة بالغة في تحديد ان كانت أية صورة تشكل انتهاكاً للخصوصية أم لا، فمكان التقاط الصورة هو الذي يحدد ان كانت خاصة او عامة، فالتقاط صورة في مكان عام لا يعتبر انتهاك للخصوصية، والمكان قد يكون طريقا عاما تملكه الدولة او يملكه افراد، وقد يكون مكانا خاصا يدخله الافراد دون قيود أو تمييز مثل المحكمة، والمكان العام بالمصادفة هو المكان الخاص الذي يكتسب صفة المكان العام ان تواجد به جمهور من الناس مثل المحال التجارية. بينما التقاط الصورة في مكان خاص مثل المنزل او من داخل المستشفى أو ثلاجة الموتى يشكل انتهاك للخصوصية، ولا يمكن التقاط صور من داخل هذه الامكنة الا اذا تنازل الشخص أو امتداده المعنوي عن هذه الخصوصيته.
الخصوصية لا تشكل المعيار الوحيد الذي يمكن ان نحدد على أساسه الحق بنشر الصور الخاصة أو صور الشهداء، فهناك معيار أو حق آخر لصيق بالخصوصية هو الحق بالصورة أو ما أسماه بعض فقهاء القانون ملكية الصورة، فكثير من الفقهاء القانونيين يرون أن صورة الانسان هي محاكاة لجسمه، وصورة الانسان وجسمه وجهان متلازمان، وبالتالي تأخذ الصورة حكم الجسم من حيث سرية الحياة الخاصة، فهي ترتبط بالانسان ارتباطاً وثيقاً، ولهذا تتم حماية الصورة من النشر غير المشروع لها، والذي يتم دون رضا صاحبها، وتمت حمايتها في تشريعات العديد من البلدان باعتبارها “ملكية فكرية” لصاحبها لا لمصورها كما يفهم البعض، فلا يجوز ان تنقل صورة شخص من مكان خاص الا اذا كانت على مسمع ومرأى الحاضرين باعتبار ذلك موافقة ضمنية على النشر.
مبدأ الحق في الصورة: رأى به بعض الفقهاء الصورة من أبرز مظاهر الخصوصية، فيما رآه فريقٌ آخر من القانونين حقاً مستقلاً عن الخصوصية، وأي انتهاك من هذا القبيل قد يكون انتهاك لحقّين، هما الخصوصية والحق في الصورة، وقد يقع الانتهاك للحق بالصورة دون ان يحصل الانتهاك للخصوصية اذا نقلت الصورة الشخصية من مكان عام، واخرون يتخذون موقفا وسطيا، اي ان الصورة عنصر من عناصر الخصوصية واحيانا تعتبر حقا مستقلاً عنه، وفي هذه الحالة لا يمكن حماية الشخص من التقاط الصورة في المكان العام، لكن يمكن حمايته ان كانت تتعلق بحياته الخاصة في مكان عام، وهذا رأي ينسجم مع ان الاعتداء على الصورة هو انتهاك للخصوصية في حالات، وانتهاك مستقل للحق في الصورة في حالات أخرى، وفي كل الاحوال يبقى الحق في الصورة حقاً شخصياً من الحقوق اللصيقة بالانسان، حقاً ينتهي بالوفاة لكن امتداده المعنوي يلحق بالورثة، وبالتالي ووفقا لرأي فقهاء القانون يمكن لأي شخص طلب وقف الاعتداء على صورته او صورة شخص متوفى يخصه، وطلب تعويض اذا تعرض لضرر نتيجة نشر صورته، فالحق بالصورة ينتقل الى الورثة بالوفاة ومسوغ ذلك المصلحة العاطفية حين يلحق بهم أذى أدبي، فتطبيقاً لهذا المبدأ قبل القضاء الفرنسي دعوى لورثة الرئيس الفرنسي فرانسو متران ضد صحيفة نشرت صورته وهو على فراش الموت، والامر ذاته كان حين قُدمت شكوى للنائب العام في مصر ضد احدى الصحف التي نشرت صورة الرئيس محمد أنور السادات بعد مقتله حيث رأى رئيس المجلس الأعلى للصحافة والنشر في مصر بان ذلك يمثل انتهاك لحرمة الحياة الخاصة.
المحدد الثالث المتعلق بنشر الصور، ويقربنا خطوة اضافية من صور الشهداء هو حرمة الموتى، فقوانين النشر في الكثير من بلدان العالم عالجت نشر الصور وحرمة الاموات، وتركت الباب أيضاً مفتوحاً للاخلاقيات لتضع الضوابط اللازمة، أخلاقيات مهنة الصحافة لا تضعها الدوائر الاعلامية وحدها بل يشاركها المجتمع في ذلك كون المجتمع هو الفئة التي يستهدفها الصحفيون، لذا من الاهمية التعرف على مدى حساسية المجتمع لحرمة الموتى، فحرمة الموتى فكرة قديمة بدأت منذ بدء الخليقة، وساهم الدين في صياغتها، لذا نجد أن اول ما يقدم عليه الناس في مجتمعاتنا هو تغطية جميع جسد الميت، وبعض فقهاء الدين الإسلامي يرون في جسد الميت عورة، لكن الشهداء لا يكفنون، البعض يغطي وجوههم أثناء التشيع والبعض الآخر يتركها مكشوفة، وهو ما يمكن تفسيره بأنه إذنٌ ضِمني من ذوي الشهداء بالسماح بالتقاط الصور لوجه الشهيد ان تم تشيعه بهذا القبيل، وان تم تغطيته يفهم بانه تقييد لهذا الامر ما لم يصرح ذوي الشهداء بذلك بوضوح.
المعيار الحقوقي الرابع الذي يحدد سبل التعامل مع الصور وعلى هو حق الجمهور بالمعرفة، وهذا حق يصعب تقييده حين تكون الوفاة ناتجة عن حدث عام مثل سقوط شهداء في مواجهات، ففي هذه الحالة تتيح العديد من القوانين حق نقل الصورة ان كانت في حدث عام، وكانت تهم الرأي العام، ولا يشكل نقل الصور مساً بالخصوصية، وهذا يبرر انتهاك مبدأ ملكية الصورة، لوجود حق آخر قد يكون حجم المنفعة العامة الناجمة عن استخدامه اكبر من حجم الضرر الناجم الشخصي الناجم عن استخدامه.
ان ما سبق يظهر جملة من الضوابط المتعلقة بنشر الصور الشخصية، ومن ضمنها صور الشهداء، هذه الضوابط تاتي بصورة ضمنية، وان لم تنص على ذلك بوضوح التشريعات الفلسطينية، وتنطلق هذه القيود من مبادئ حماية الخصوصية، الحق في الصورة، حرمة الميت، وحق الجمهور بالمعرفة حيث توفر هذه المبادئ الحقوقية الحماية اللازمة للصورة، وتعرض ناشريها للمسؤولية المدنية والحق بالمطالبة بالتوقف عن نشرها والتعويض عن اي ضرر ينجم عن استخدام هذه الصور، ما لم يكن لهذه الصورة قيمة اخبارية عالية تبرر مخالفة القواعد القانونية والحقوقية المذكورة أعلاه.
ان هناك حالات نشر صور للشهداء، تستوجب اتخاذ تدابير فورية من قبل نقابة الصحفيين والمؤسسات الاعلامية، هذه السلوكيات تتناقض مع ابسط القواعد القانونية والاخلاقية للعمل الصحفي، مثل التقاط صور شخصية للشهداء في ثلاجة الموتى ، فثلاجة الموتى تصنف مكاناً خاصاً وليس عاما، والوصول اليه يتطلب موافقة ذوي الشهيد وموافقة الادارة التي تشرف على الثلاجة وفي احيان اخرى تنشر صور شهداء بعد الوفاة وتظهر ملامح وجوههم واجسادهم بوضوح دون مراعاة لمشاعر ذويهم التي ستبقى الصورة المنشورة معلقة بأذهانهم الى الأبد مما ينعكس سلباً على حالتهم النفسية، وفي حالات أخرى يتم نشر صور لأجساد شهداء هشمت جثثهم أو الدم يسيل منها، بل وصل الأمر الى حد نشر صور لأشخاص تحت عنوان شاهد كيف احتضر الشهيد الفلاني!!
ان القواعد القانونية والأخلاقية تفرض وضع تدابير وقيود على نشر الصور الشخصية للشهداء خاصة في الحالات التي سبق ذكرها، ومن واجب الصحفي قبل أي نشر مما سبق، استئذان ذوي الشهداء وأخذ موافقتهم حتى لو كانت هذه الصور منشورة على مواقعهم الاجتماعية خاصة اذا كانت هذه الصور غير متاحة للعموم، فمن حق ذوي الشهداء أن يقرروا الصور التي ستنشر ان رغبوا بذلك، وأن يعترضوا على الصور التي لا تناسبهم، فوصية الشهيد بهاء عليان كانت أنه لا يريد بوسترات لصورته أو بلايز وكأنه ينتقد آلية التعامل مع صور الشهداء، فقواعد اخلاقيات المهنة تقضي بأن تحترم ارادة الأفراد، وأخلاقيات مهنة الصحافة يضعها الصحيفيون والمجتمع معاً . يجب أن لا ننسى أن كل شخص فينا يحاول ان يبحث على اجمل صورة لشخص متوفي يخصه لنشر نعي له، من حق ذوي الشهداء ان يختاروا الصور التي ستنشرها وسائل الاعلام، كون هذه الصور هي حق لأصحابها دون غيرهم.
ان نشر صور أهالي الضحايا، وهم تحت هول الجريمة وليسوا بكامل وعيهم، كمشهد والد شهيد ينهار امام الكاميرا اثناء معاينته لصورة شهيد ما ويكتشف أنه ولده، عمل فيه انتهاك لخصوصية هذا الشخص وكرامته، ولا يمكن التذرع بموافقه الشخص على انتهاك خصوصيته، فهو اصلا فاقد للوعي والادراك ولا يمكن أن نقول انه تنازل عن خصوصيته. والامر نفسه ينطبق على اولئك الذين يسارعون لاجراء مقابلات صحفية مع امهات الشهداء او ذويهم قبل أن يفيقوا من الصدمة، مما يجعلهم يقولون قولاً لا يرغبون بقوله عندما يكونون بوعيهم، بل يندمون عليه أحياناً بعد استفاقتهم من الصدمة، فاحدى القواعد الاخلاقية التي يتسلح بها موثقو حقوق الانسان عند مقابلتهم ضحايا التعذيب والعنف والجنسي هي وجوب التوقف عن مقابلة الضحية اذا تذكرت الصدمة التي مرت بها وانهارت اثناء المقابلة. اعتقد ان الامر نفسه يجب أن ينطبق على المصورين والصحفيين الذين يقابلون الضحايا أثناء الصدمات، فعليهم ان يتوقفوا عن التسجيل أثناء انهيار الشخص الذي تتم مقابلته، لا أن يعتبروا ذلك انجازاً مهنياً.
ان الحالة الابرز التي يمكن للمصورين ان ينشروا فيها صور الشهداء هي صورهم الشخصية التي يحصلون عليها بموافقة الأهل، وتلك الصور التي يتم التقاطها في مكان عام وتكون صورة يطغي عليها الحدث، لا صورة شخصية، أي أن لا تكون ملامح الشهيد الشخصية بارزه في الصورة، ولا تكون جثته حتى لو غطي الوجه مُضرجة بالدماء او مشوهة، ويحمل نشرها قيمة اخبارية عالية تفوق قيمة نشرها الضرر الذي قد يلحق من نشرها، كما هو الحال في نشر صورة الطفل الشهيد محمد الدره.
ان القواعد القانونية تتيح نشر صورة ذات قيمة إخبارية عالية تهم الرأي العام في حالات على حساب عناصر الحماية القانونية الممنوحة للصورة على صعيدي الخصوصية والحق بالصورة، ان كانت هذه الصورة ضمن حدث عام، وذات قيمة اخبارية كبيرة، والقيمة الاخبارية للصورة تتحدد حين تنشرها وكالات وصحف محلية ودولية على صدر صفحاتها باعتبارها حدثاً يهم الرأي العام، ولا يقررها فقط شخص قرر أن ينشر على موقعه الاجتماعي هذه الصورة.
ان الصور تبقى بشكل عامة محمية بموجب الخصوصية والحق الأدبي في الصورة الذي ينتقل للورثة، وحرمة الاموات، ومبرر النشر المخالف لهذه القواعد هو قيمتها الاخبارية، وقيمتها الاخبارية تتحدد حين يكون نشرها حدثا يتصدر كل وسائل الانباء المحلية والاجنبية.
المصدر : شبكة اجيال order cialis in usa.