للمخرج والممثل الأميركي وودي آلن فيلم بعنوان: «منتصف الليل في باريس». ويناقش فكرة الحنين إلى الماضي، أو باليونانية القديمة «نوستالجيا». حيث بطل الفيلم وهو كاتب قصصي أميركي يقضي إجازته مع خطيبته في باريس، فيبثها حنينه إلى ماضي المدينة وهي تعج بالرسامين والكتّاب والفنانين، ولكن خطيبته المشغولة بالحياة الحاضرة على وضعها لا يعنيها الحنين الجارف لما فات. وبحبكة «فانتازيا» يجلس البطل وحده على درجات رصيف قديم، وعند دقات الساعة الـ12 تمر به سيارة من طراز بعيد ليصعد إليها وتأخذه في نقلة واحدة إلى حقبة العشرينات حيث بيكاسو وهيمنغواي وسلفادور دالي وشخصيات أخرى لم تكن لتجتمع في مكان واحد لولا وودي آلن. وهكذا تتوالى الليالي وعند منتصف الليل ينتقل الكاتب بالسيارة إلى حيث يرجو، إلى العصر الذهبي كما أطلق عليه، وهناك يقابل محبوبة بيكاسو التي ملت من حاضرها وتصفه بالملل، فكل ما حولها سريع وصاخب ومعقد، وتتمنى لو أنها عاشت أيام 1890 حيث الحقبة الجميلة كما سمتها. وبالفعل تمر عربة بخيولها لتقلهما إلى حيث تمنّت المرأة، فإذا بغوغان وغيره من فناني جيله يشتكون من حاضرهم الفارغ والمفتقر إلى الخيال، ويتمنون عيشهم في عصر النهضة السابق. ولأن الأزياء التي كانت تلبسها المرأة الغريبة غير تلك المعتادين عليها، فقد سألوها عنها، فأجابتهم بأنها مصممة أزياء وتحب التجديد في الأناقة، فاستغربوا مهنتها التي لم تكن معروفة بعد في زمنهم.
وهكذا نحن! فكل حقبة نعتقد أن ما قبلها كان أفضل منها، وكل فكرة سابقة لعصرها وكأنها كما الخيال العلمي بالنسبة لعصرها الذي هي فيه، وهو ما يحدونا إلى مراجعة حكمنا القاسي على أفكار وتعديلات حالية نستنكرها ونستهجنها، وقد نكون أول المنادين بها لاحقاً. فلا نستعجل وعلى رسلنا، فنحن من حطّم الأطباق الفضائية، ونحن من يتسابق اليوم على قنواتها، فلم والأفلام تعرض في بيوتنا بلا رقابة، لا نفتح لها دوراً عامة وبما وافق منها ثقافتنا! فما ننفر منه اليوم سيصبح مما نألفه غداً، فلو قيل للسعوديين في مجتمعهم المغلق أن سيأتي عليهم يوم وتتيح لهم وسائل الاتصال المتطورة أن يكلموا بعضهم بعضاً مرئياً وصوتياً وكتابياً بضغطة زر من بعد الهاتف الأسود الأثري والصوت المتقطع، لكانت الفكرة برمتها ضرباً من خيال واسع غير قابل للتصديق. فيا ترى، ماذا بعد في جعبة الأيام؟ ماذا عن أفكار وابتكارات لو طرحت اليوم لكانت مثل «اللابتوب والموبايل» أو «تويتر والإيميل» في عصر التلغراف والراديو صوت الشيطان؟ وهل بالفعل وبعد الذي نشهده ستصدمنا الأيام بتطور فوق التطور، بحيث يعد ما نحن فيه تأخراً فوق التأخر؟ وبالمناسبة فشعوب العالم الثالث تعاصر التطور، ولكنها ليست ممن يعيشونه في جوهره. إنه التطور المقنّع.
فما قصة العاطفة الغامضة نحو الماضي؟ ولنلقي نظرة على فترة الثمانينات القريبة نسبياً، فمن يتمنى عودته إليها؟ قد تراودك بعض الذكريات المشوشة والسعيدة عنها، ولكن هل تكفي؟ أم أن السعادة إحساس متأخر كمن يضحك على نكتة بعد وقت لأن طرفتها لم تصله في حينها؟ وكما نضحك ممن يضحك على النكتة متأخراً، فكذلك هو الذي لا يلحظ السعادة الآنية وهي تزوره، ولكنه يتعرف اليها إذا مرت وانتهت. أيامنا صعبة ولا شك، ولكن هل عشنا زمن الاحتلال؟ هل عاصرنا الحربين العالميتين أو زمن الطاعون والمجاعة؟ وحقبات وأحداث مرت بأهلها وعصرتهم عصراً ولم يكن لديهم ما يعينهم على مشاركة الألم والأمل كما اتصالاتنا اليوم. فحاضرنا ليس سيئاً أو جيداً على إطلاقه، ولكنه شيء من هذا وذاك، إنها حال الدنيا مذ صارت دنيا، أمّا حنيننا لبراءة الماضي فلأننا نقيسه بتفتّح وعينا، فنظن أن الناس فيمن مضوا كانوا أكثر صلاحاً وسجية من الناس في حاضرنا وهي نظرة قاصرة ومجتزئة، ولكننا اعتقدنا فيها لتراكم الأعوام والخبرات في عقولنا وتناقص السذاجة تدريجياً من تفكيرنا. فما حصل معنا تصورنا أنه حصل مع الدنيا، وما يدرينا أن الناس الأوائل الذين نعتقد فيهم الزمن الجميل هم أيضاً حين كبروا ونضجوا تمنوا زمن غيرهم؟ وهكذا حال صغيرنا اليوم إن تقدم به العمر ونظر إلى ماضيه وتحسّر على البراءة التي اختطفها منه حاضره. باختصار: هل تعرف أعظم يوم في التاريخ؟ هو كل يوم وإن لم تصدِّق!