غسان كنفاني رواية مَلحَميّة وأيقونة مقاومة

12 أبريل 2019آخر تحديث :
غسان كنفاني رواية مَلحَميّة وأيقونة مقاومة
غسان كنفاني رواية مَلحَميّة وأيقونة مقاومة

كتب د. زياد بني شمسه أستاذ الأدب والنقد جامعة بيت لحم عضو جمعية النقاد الفلسطينيين 2019

مراحل أعمال غسان الأدبية من النكبة إلى المقاومة

ستة وثلاثون خريفا قاسيا مضت من عمر الأيقونة الملحمية غسان كنفاني 1939-1972، تفتحت فيها طفولته على اللجوء في بيروت، وأغمضت عيناه هناك بعيدا عن الوطن والحلم والذاكرة شهيدا بين دخان الغدر والخيانة، بعدما اغتالته أيدي الغدر في بيروت،وقد خلف وراءه عمودا متصاعدا من الدخان، والأدب المقاوم وترسم خريطة الوعي والمقاومة الفلسطينية.فأعماله الروائية والقصصية والمسرحية والأدبية كلها قسمة عادلة بين الحب والتضحية،وكتاباته دستور ثورة غمست ريشته مدادها من مأساة شعبه وطبقة الكادحين والمتعبين والثائرين.
لقد مرّ إنتاج غسان الأدبي في مراحل مختلفة تعود لمأساة فلسطين ومسيرة تحررها ، وتعود لوعي غسان بالقضية، فأدبه عبر عن المأساة والذهول قبل نكبة 48 ؛ لأن غسان بكى واشتكى جراح وطنه ومأساة تشردهم، وفي مرحلة ثانية ظهرت أدب الاحتجاج والتمرد ما بين 48- م67، والصراخ على الجراح، يطلب من أخيه الفلسطيني الاحتجاج على صمته، ولملمة جراحه، تلاحما مع صوت الشعراء المقاومين معين بسيسو :
أنا إن سقطْتُ فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاحِ
واحمل سلاحي لا يخفكَ دمي يسـيل مـن السلاحِ
أنا لم أمت! أنا لم أزل أدعوك من خلف الجراحِ
وفي مرحلة ثالثة مرت أعماله في مرحلة الانبعاث والمقاومة في مرحلة الستينيات وتشكل منظمات التحرير الفلسطينية في تلك المرحلة، وكتب عن الثورة والمقاومة، وأصبحت في وعيه النضالي أن” خيمة عن خيمة تفرق”، في ملحمته رواية أم سعد.

المرحلة الأولى : أدب الذهول والصمت (1956-1962)
“الفلسطيني يحمل عاره أينما ذهب”
ماذا أنتج غسان كنفاني في هذه المرحلة ؟ وما زال الفعل الفلسطيني خارج الفعل التاريخي، لا يزال يتمثل الهزيمة في صمت وانتظار، لقد كانت المجموعة القصصية “موت سرير رقم 12″، والمجموعة القصصية الثانية “أرض البرتقال الحزين” مستوحاة من النكبة . تجسد معاناة الفلسطينيين في الشتات، والشخصيات في أعماله الأدبية مشدودة للماضي الجميل، يعيشون على مشاعر الحرمان والبؤس، الندم والمرارة، الحزن والغضب، والهروب من الماضي.
كان يرى ” الفلسطيني يحمل عاره أينما ذهب”فاللجوء والمنفي عار على الفلسطيني، وعليه أن يحول خيمته إلى مقاومة وحلم للعودة، وفي مجموعته القصصية “موت سرير رقم 12” يتحول الفلسطينيون الغرباء إلى أرقام في المنافي، ويعيشون حالة الوحدة دون التفكير في حل جماعي بالعودة، “فهم لم يكونوا يشعرون بالانتماء، والآخرون لم يشعروهم بأنهم عرب” لقد تحول الفلسطيني إلى لاجئ بين عشية وضحاها : ” وعندما وصلنا صيدا، في العصر، صرنا لاجئين…” وتستمر المأساة” كنت نصف نائم، المخيمات، تلك اللطخات على جبين صباحنا المتعب . الخرق البالية التي ترف مثل رايات الهزيمة، المرمية بالمصادفة فوق سهوب الوحل والغبار والشفقة؛ فالبطل في قصة ” شيء لا يذهب” يصرخ قائلا” لم أكن قط استحق ليلى كانت أحسن مني بكثير، كنت جباناً، أخاف من الموت ورفضت أن أحمل سلاحاً لي، أدافع عن حيفا.. أشعر اليوم أنني لم أكن أستحق ليلى مطلقاً، بل لم أكن أستحق حيفا نفسها”.
وفي قصة ” كعك على الرصيف” الأب يفكر في الانتحار لأنه لا يستطيع توفير لقمة العيش لأبنائه، والأطفال تخلو عن طفولتهم وبراءتهم ليصبحوا رجالا يتعاركون مع الرغيف.
هذه المجموعات القصصية كما عبر عنها إلياس خوري ” لا تريد سوى أن تصرخ في وجوهنا، وأن تنزف قضيتها، دون أن يكون بوسعها أن تعطي حلولا، وحتى أن ترسم سؤالا، إنها مرحلة الذهول، المناجاة المرعبة، الهروب السريع، المقاومة التي انطفأت، ثم الواقع الجديد بكل مآسيه وآلامه” .

المرحلة الثانية: أدب الاحتجاج على الصمت(1963-1967)
” المخيم حبس وبيتك حبس والجريدة حبس والراديو حبس والباص والشارع وعيون الناس.. أعمارنا حبس والعشرون سنة الماضية حبس والمختار حبس تتكلم أنت عالحبوس؟ طول عمرك محبوس..”
أدب غسان المرآة الصادقة الأمينة على عدالة قضيته وشعبه، وفلسطين وموضوعها هي أدب الالتزام في فنه، بدأ غسان يقوم بدوره، ويكفف دموعه السخية والسخينة على عكا، بدأ يصرخ على الجراح، ويستنهض الهمم، فأنتج مجموعته الروائية” رجال في الشمس” 1963 وروايته ” ما تبقى لكم” 1966م التي تبشر بالتحول الفلسطيني، فماذا تبقى لمريم بعدما فقدت بكورتها وشرفها مع النتن زكريا، وماذا سيخسر حامد غير الخيمة والوتد”، لقد بدت أعمال غسان الأدبية دما ثوريا يحرك جمود شعب طال ذهوله، عشرون عاما بعد النكبة، أراد من شعبه الخروج من قوقعة الاستسلام، الخروج من الخزان، يذهب إلى استنهاض الهمم، والصراخ على الجراح؛فالصمت مذلة وخنوع، ورسالته في رواية ” رجال في الشمس ” عليك أيها الفلسطيني اللاجئ المعذب أن تبحث عن الخلاص، وأن الحلول الفردية التي قام بها الرجال الثلاثة للبحث عن لقمة العيش، والهروب إلى الكويت الدوحة المأمولة ، هو موت وهلاك” لماذ لم تدقوا جدران الخزان؟؟” لماذا يموت الفلسطيني عاجزا جزعا ؟؟ لماذا تثقون بقياداتكم العاجزة” أبو الخيزران” وقد فقد ذكورته في معركة خاضها، وقاد شعبه للهلاك يقول أبو الخيزران” ماذا تنفعك الوطنية؟ لقد صرفت حياتك مغامرا، وها أنت أعجز من أن تنام إلى جانب امرأة، وما الذي أفدته؟ ليكسّر الفخار بعضه، أنا لست أريد الآن إلا مزيدا من النقود مزيدا من المال”.
وفي روايته” ماذا تبقى لكم ” هي بداية الانبعاث والتحرك الفلسطيني،مرحلة دخول الموت والطور التاريخي، هي الدرس الكبير الذي يقدمه غسان وهو أن كل محاولة لبلوغ الطهر والشرف لا بد من العبور بفلسطين المحتلة، عبر الصحراء؛ فحامد بطل الرواية الرمز الكلي لكل فلسطيني كابد النكبة والإحباط، ولا بد له أن يثور ويحتج على عاره، يطرق بوابة المستقبل المجهول في رحلة للانفلات من الماضي والعار، رحلة في صحراء النقب محفوفة بالمخاطر ليلتقي بجندي ويصل إلى الخلاص.

المرحلة الأخيرة: مرحلة أدب المقاومة بعد 67 م
” الدموع لا تسترّد المفقودين ولا الضائعين، ولا تجترح المعجزات”
” الغزلان تحب أن تموت عند أهلها.. الصقور لا يهمها أين تموت “.

هذه حقيقة هذه المرحلة الثورية المشتبكة، فليس المهم أين أو كيف يموت الفلسطيني ؟؟، المهم أن تنتصر الثورة.” أيها الذي يعيش تحد أكداس الأقدام إكبر.. إكبر لماذا لا تموت نداً قبل أن تقاوم ؟”
هذه المرحلة تتحدث عن بذل الدماء والشهادة، تحويل الخيانة إلى وطنية، والمنفى إلى خط دفاع عن الوطن، ولا سيما في تلك السنوات العجاف التي سبقت ظهور منظمة التحرير الفلسطينية وفصائل المقاومة.
كتب غسان في هذه المرحلة روايته الملحمية ” أم سعد” 1969 م ورواية” عائد إلى حيفا”
وفي رواية ” عائد إلى حيفا ” يعيد صياغة التاريخ والمعاني ” الوطن والإنسان والمكان والهوية “يقاوم ويحرض وينحاز للخيار الثوري.أتعرفين ما هو الوطن يا صفية؟.. الوطن ألا يحدث ذلك كله”
فالحقيقة التاريخية عند كنفاني ليست قضية عائلة ولا قضية عاطفية ولا بيولوجية ولا دم ولحم؛ أي ليست مجرد طفل ترك قبل عشرين عاما، وإنما هي قضية هوية وشعب ووطن وأرض، وفكرة “.
” كان عليكم ألا تخرجوا من حيفا، وإذا لم يكن ممكنا فقد عليكم بأي ثمن ألا تتركوا طفلا رضيعا في سرير، وإذا كان مستحيلا عليكم ألا تكفوا عن محاولة العودة، لو كنت مكانك لحملت السلاح، عاجزون مقيدون بتلك السلاسل الثقيلة من التخلف والشلل”

وفي رواية ” أم سعد” الملحمة التاريخية الكبرى، رواية الفداء والتضحية، رواية التحول التاريخي والفعل النضالي الاجتماعي والعسكري، رواية النضال تتحول فيها الخيام إلى معسكر ” خيمة عن خيمة بتفرق”، وتعلق أم سعد في عنقها رصاصة بدلا من تعويذات وخرافات لم تجلب لها ولشعبها إلا الموت والعار والهلاك، رواية نضال اجتماعي وكفاح المرأة التي زرعت فيها عرق دالية ناشف ثم في نهاية الرواية يزهر ويثمر. هذا كان أدب غسان كنفاني ترجمة لقضايا شعبه وهموم البائسين، ينطق عن جراحهم ويصرخ في وجوههم تارة أخرى، ويستنهض همهم للانبعاث والثورة.