رحلة الوجع الفلسطيني (8 والأخيرة): تحت سماء رام الله

1 يوليو 2015آخر تحديث :
رحلة الوجع الفلسطيني (8 والأخيرة): تحت سماء رام الله
رحلة الوجع الفلسطيني (8 والأخيرة): تحت سماء رام الله

كما قوس قزح، تتلون رام الله بسحر أشواقها. كان الجو مشمسا في الصبحية، بسرعة تغير الجو، كما الحياة، ورفعت الرياح الأتربة وأوراق الورود الميتة في حديقة محمود درويش.
كنت سعيدا للالتقاء مع جمهور المتحف مرة أخرى بعد غياب دام سنتين وبعض الساعات. كنت ما أزال مثقلا بصور الخليل الأخيرة التي أكدت لي مرة أخرى أن ما نراه غير ما نسمع به.
مدينة أصيلة وتكاد تضاهي القدس في عراقتها وأصالتها الدينية، تسرق أمام الضمير العالمي المنشغل بهمومه الاقتصادية والخوف من انسحاب اليونان، أكثر من انشغاله بالدم الفلسطيني الذي يراق يوميا، وبمدن لها كل سمات العالمية الدينية، تنهب حيطانها وأنفاقها وكنائسها وتُمزّق مساجدها مثل جامع الخليل الذي بحسب الأهواء، لا بحسب احترام كل الديانات، وتقطع أوصال حاراتها ومدنها في صمت، له طعم رائحة الحرائق والخيبات، لتواجه قدرها القاسي بعزلة كلية عن المركز الفلسطيني. مثلها مثل بقية المدن والبلدات الفلسطينية الأخرى التي تتمدد بينها المستوطنات القاسية، المختلفة التي تتسع وتكبر وتأكل من فلسطين الكثير أرضا وحرية وحلما.
إسرائيل بحكومتها المتطرفة الحالية لا تريد السلام، بل تحاربه وعلى الفلسطينيين ابتداع طرق جديدة للمقاومة، تضمن الحق والسلام في الآن نفسه. تدرك إسرائيل سلفا أن سياسة الأمر الواقع هي منفذها الأوحد نحو مستقبل لا شيء يضمنه حاليا من جهتها إلا النار والنهب والتقتيل، وتسريع الخطى في وضع دولي مناسب، يسيطر عليه القطب الأحادي الأمريكي المتحالف عضويا مع الحركة الصهيونية، وانهيار عربي على المستويات كافة، يساعدها بامتياز على فرض الترتيبات التي تشاؤها إسرائيل.
لكنني كنت أيضا ممتلئا بما لمسته من إرادة فلسطينية خلاقة بانشدادها إلى أرضها وحبها لها والالتصاق بها. ولم تبرح عيني صورة الشباب المقدسي الذين سبقونا ليلا إلى نزل رام الله وظلوا ينتظرون مدة طويلة، فقط ليقولوا حبهم وانشغالاتهم وأحلامهم. الرياح التي كنست ساحة البروة أعطتني إحساسا غريبا بالحزن شممته يصعد من شوارع رام الله ومن عيون سكانها من الأصدقاء أو الناس العابرين. عند باب قاعة المحاضرات التي كنت أستعد لعبور عتبتها، أوقفني للحظة صديق مقدسي كاتب، منحني بعض كتبه التي أعتز بها، قال: أنا هنا من أجلك.
من أجلك فقط، بيني وبين المتحف خلاف. لا أدري من أين جاءتني بديهتي في الإجابة عن انشغاله، بالكثير من الحب: مجرد سؤال، قبل أن أدخل، هل في الثقافة الفلسطينية ووضعها متسع لهذه الفرقة؟ أنا في فلسطين فقط. فلسطين التي تخترقها كل الألوان وتضمن زهوها. لا أعرف فلسطين محقة، في المطلق، وأخرى مخطئة. أدركت بسرعة أن الخلافات السياسية التي كنت قد تابعت بعضها من باريس والجزائر تجسدت أمامي في حركات بسيطة تُقرأ بسهولة، لكنني لم أكن أعرف أنها كانت بذلك العمق عند المثقفين ذوي الأفق الأكثر اتساعا. لست أدري إذا كان يحق للفلسطيني هذا الرخاء، في ظل وضع دولي خانق لكل شيء اسمه فلسطين، وسلطة في مهب الريح، لم تسعفها ظروف الاحتلال القاسية للوحدة والعمل والاستقرار، وتصبح القوة الوحيدة المعبرة عن المصالح الفلسطينية الحيوية كما كانت دائما منظمة التحرير.
قلت في أعماقي: على الأقل بعض الثقافة يمكنها أن تجمع الفرقاء في حضرة درويش. لهذا كانت سعادتي كبيرة برؤية جمهور تفصل بيني وبينه سنتان وبعض الساعات من الغياب والكثير من الحب المؤجل. كان اللقاء منقولا على المباشر على قناة «فلسطين مباشر» وهو عبارة عن مناقشة بيني وبين الغالية الدكتورة رزان إبراهيم، أستاذة النقد في جامعة البترا، بعَمَّان التي أدارت المحاورة حول سيرة المنتهى، بحرفية كبيرة. بسرعة امتلأت قاعة الخليل، في متحف درويش، بروادها وضيوفها وعشاق الكتابة والرواية، وبروح الصديق الكبير الشاعر محمود درويش التي كانت كفراشة ترفرف على الرؤوس وبالقرب من العيون لدرجة أن يُسمع حفيف جناحيها عندما يصمت الجمهور نهائيا يسترق السمع لضيوفه، أو حتى لداخله المنشغل بهموم الثقافة والدنيا. وجوه كثيرة من أصدقاء أعزاء، كانوا يشكلون جزءا مهما من الصفوف الأولى: الروائيان يحيى يخلف، ليانة بدر، والشاعر أحمد دحبور أو الولد الفلسطيني الذي ترك العمر والتعب الكثير من شروخه عليه، لكنه أخفق في أن يمحو طفولته وطيبته السخية وملامح وجهه الزكية التي عرفتها قبل أكثر من ثلاثين سنة في دمشق الشام. فقد كان أول من نظّم لي أمسية روائية لتقديم عملي الأول، الصادر وقتها بوزارة الثقافة السورية: وقائع من أوجاع رجل غامر صوب البحر، في اتحاد الكتاب الفلسطينيين، الذي كان دحبور يشرف فيه أسبوعيا على نشاطاته المتنوعة. التقيت به هذه المرة عن سبق إصرار فقط لأقول له شكرا على تلك الأمسية التي قادتني اليوم نحوك ونحو هذه الأرض الزكية. كنت كمن يلتقي مع زمن هرب وبدا يختفي بسرعة مخلفا وراءه غيمة داكنة من الخوف. قلت له هذا في العشاء في بيت الغالي الروائي الكبير يحيى يخلف الذي استضافنا بكرمه المعهود لتقاسم طعام عائلته الكريمة. كنت سعيدا لأن تواجدي وحده في فلسطين كان بالنسبة لي حظا أحسد عليه محليا وعربيا. للأسف، لا نذهب إلى فلسطين وقت ما نشاء، في ظل احتلال لا يسهل العبور، بل يعمل على التنفير بقصد مسبق، في الحدود والمعابر، بالانتظار الغبي في أغلب الأوقات، والأسئلة المكررة والمملة، والنظرات التي تحمل في أعماقها ألف سؤال كل إجاباته معلقة على زمن قادم لا أحد يعرف ملامحه. لكنها عقلية الاحتلال، غطرستها ويقينها في شيء شديد الهشاشة. لا تطلب ممن سُرِقت أرضه وانتهِك عرضه أن يكون طيبا وكبير القلب. هذه اليوتوبيا انتهت للأسف بسبب التعنت الإسرائيلي. لقد رأيت شبيها لهذا في جزائر الخمسينيات وبدايات الستينيات، عندما كنت أخرج من بيتنا للذهاب إلى المدرسة، فأرى الدبابات والسيارات العسكرية التي تملأ الطريق والتوقيف هنا وهناك للرجال والنساء والتفتيش الهستيري. جوهر الاحتلال واحد كيفما كانت أشكاله وتجلياته. كانت الأمسية في المتحف رائعة أحسستني بأن الانشغالات العربية واحدة مهما كانت درجة المأساة. وبلغ النقاش أقاصيه حول الرواية، الثيمات، لغة الكتابة، فلسطين، الثورات العربية، وظيفة الكتابة في زمن القهر… ما أعطاني أملا أقوى في الزمن المقبل الذي نتشبث به بكل ما نملك من حب وقوة، هو عندما بدأت توقيع سيرة المنتهى/ عشتها كما اشتهتني، في طبعتها الفلسطينية، غمرني الجمهور الفلسطيني بمحبته. كان جميلا وكبيرا ووفيا كعادته. من بين كل الجموع المنتظرة، أتذكر جيدا ملامح الكثير منهم. الشابة الجميلة والأنيقة التي تقدمت نحوي، وطلبت مني أن أوقع نسختين، واحدة لها والثانية لنائل البرغوثي الذي أمضى 34 سنة في سجون الاحتلال، وما يزال مشدودة إلى الحياة والأمل والقراءة. لم أملك لغة أخرى لكي أظل مستقيما أمام ثقة الشابة في مستقبل مقبل، إلا أن أنحني كما يليق برجل كبير حتى في غيابه: أنحني أمام صمتك وآلامك. إن النور الذي في عينيك لن ينطفئ أبدا. والشابة التي اشترت أربع نسخ، قالت: واحدة لي وثلاث لإخوتي في الشتات الأوروبي والأمريكي، الذين يعيشون على وقع فلسطين… والشاب الذي قال لي: قرأت سيرة المنتهى في طبعتها الأولى في دبي الثقافية واشتري هذه الطبعة لأنها لفلسطين. أنا من غزة. ثم ذكرني بأن لغزة حق في أسفاري وكتبي… كل يوم، بفضل يقين هذه الوجوه الحية والجميلة، يزداد يقيني بأن قضية وراءها ذاكرة حية، وامرأة مقاومة، لن تموت أبدا، مهما كانت الانكسارات والاخفاقات. الأجيال مثل حركة موج البحر الأبدية، تذهب وتجيء، ومعها تولد الآمال التي ظلت زمنا طويلا ضامرة. بقي الاستعمار الفرنسي في الجزائر قرنا ونيفا، وذات صباح فوجئ في غمرة يأسه، يأخذ دباباته وطائراته وعساكره ويرحل، ومعه ترحل أحزان أكثر من قرن من ميراث الخوف والإذلال. قد يكون زمننا أكثر صعوبة من زمن الأجداد، قد يكون يأسنا أكثر قسوة، لكن لا قوة في الدنيا تمنع قلبا من أن يخفق وعينا من أن ترى ومن حياة أن تستمر وإلا لانتهت البشرية في حروبها الأولى. وكأن فلسطين لا تغيب إلا لتظهر من جديد. فجرا عندما قمت تحت سماء رام الله المغسولة من كل غيم، استعدادا للمغادرة فاجأني أصدقائي بالدعوة لفطور في رام الله القديمة، مع أناس لا يملكون إلا كرمهم ومحبتهم الكبيرة، زعتر وفلافل وزيت زيتون وشاي وصفائح. لأول مرة أودع فلسطين بطعمها الشعبي الجميل، في قلبي وفي فمي وفي كل حواسي. لي أمل طفولي لا استطيع مقاومته أن أركض تحت سماء فلسطينية واحدة، وأن أعود في المرة المقبلة وقد وجدت رام الله وغزة لغة مشتركة، مسلكا وطنيا، يكون صوت فلسطين الآتي.

واسيني الأعرج how to take cialis 20mg.