لم يكن أحد يعلم بأن العشاء الأخير سيكون آخر لقاء بين مالك وعائلته، العشاء الأخير الذي أصرّ مالك على إعداده بنفسه، دون مساعدة من أمه وشقيقاته الخمسة، رغم اقتراحهن ذلك.
حُضّر العشاء واجتمعت العائلة لتناوله ووداع مالك لكن دون علمها بأن هذا هو الاجتماع الأخير.
بعد العشاء خرج مالك ولم يعد إلا ظهر اليوم التالي محمولاً على أكتاف رفاقه.
استحم وخرج للقاء أصدقائه كما العادة في الحارة التي تقع في وسط مخيم الدهيشة جنوب مدينة بيت لحم.
في تلك الليلة جال مالك وأصدقاؤه شوارع المخيم الضيقة، وكأنه يودعها، ويودع مخيماً قد عاش فيه 19 عاماً كما بقية اللاجئين الفلسطينيين الذين هجروا من أراضيهم عام 1948.
فيما لم يكن كعادته في جلسات السمر مع أصدقائه، فكان صامتاً في أغلب وقته، وبقي فقط يلقي بابتسامته الجميلة على كل من يلقاه، وكأنه يقول له وداعاً سألقاك في مكان أجمل.
بعد منتصف الليل ازداد سواد الليل سواداً مع اقتحام قوات الاحتلال المخيم لاعتقال عدد من الشبان وتسليم بلاغات لمراجعة مخابراتها لعدد آخر من الشبان، وبدأت المواجهات بين الشبان وجيش الاحتلال للتصدي لهم، ومالك لم يعد إلى البيت!
اقتُحم المخيم بأكثر من 500 جندي إسرائيلي توزعوا في جميع شوارع وحواري المخيم، وبدأووا بتفتيش البيوت، واعتقلوا 5 شبان ووزعوا بلاغات على 13 شاباً آخرين.
وما بين الأذان الأول والثاني لصلاة الفجر، حاصر شبان المخيم وحدة من الجيش كانت متمركزة في إحدى شوارع المخيم.
أما مالك فكان مع شابين آخرين من أصدقائه على بعد عدة أمتار فقط من مكان الجنود المحاصرين بالقرب من مؤسسة إبداع في وسط المخيم. ولكنه لم يتراجع وكأنه ينتظر الرصاصة التي ستخترق جسده، والتي سيرتقي بعدها شهيداً.
عندما أحس الجنود بأن الحجارة تتساقط عليهم كالمطر، صاروا يطلقون الرصاص الحي بكثافة وفي جميع الجهات، ومع صوت المؤذن مردداً “الله أكبر” للأذان الثاني لصلاة الفجر، أبت إحدى الرصاصات إلا أن تخترق جمجمة مالك، وتقسمها إلى 300 جزء حسب صور الأشعة التي أجريت له فيما بعد.
عندها سقط جسد مالك على الأرض تماماً بنفس الوضعية التي كان بها الطفل الأسير أحمد المناصرة ملقى على الأرض، أما روحه فأبت السقوط وفضلت أن تلتحق بكوكبة الشهداء الذين استشهدوا خلال الشهرين الماضيين.
بدأ شابٌ مسعف كان مع مالك في تلك اللحظات بمحاولات بائسة لإنقاذه، فالدم كان ينزف من رأسه بشكل كثيف جداً حتى غطى دمُه الأحمر القاني الشارعَ ، وعند محاولات المسعف إنعاش قلب مالك بالضغط على صدره، بدأ الدم يخرج من فمه وأذنيه.
بعدها هدأت المواجهات وانسحب الجيش من المخيم، وتمكن الشبان من نقل مالك إلى سيارة الإسعاف القريبة والتي لم تتمكن من نقله بسبب الرصاص الكثيف، لكن مالك كان قد استشهد قبل نقله إلى الإسعاف.
في بيت مالك، كانت الأم لم تنمْ ليلتها تلك بسبب انشغالها بترتيب البيت، لإحساسها بأن مصاباً جللاً سيحدث في الأيام القريبة جداً.
أما الأب فكان يستعد للخروج من البيت، والذهاب لأداء صلاة الفجر في المسجد، على الرغم من سماح الإمام للمواطنين بتأدية الصلاة داخل المنازل لكثافة الغاز في شوارع المخيم، حينها علم الاثنان بأن شاباً مصاباً بجراح خطيرة في المخيم عبر شاشات التلفاز.
في المسجد وبعد انتهاء الصلاة همّ والد مالك بالخروج من المسجد إلا أن كلمات قد تهاوت إلى سمعه بأن الشاب قد استشهد، وهو مالك أكرم شاهين!
توجه إلى البيت وعند بابه، قابل زوجته التي ارتدت ملابسها واستعدت للخروج، فنظرت إليه وقالت “مالك الشهيد”! فقال لها: “رددي لا حول ولا قوة إلا بالله”.
أصبح المخيم –الذي لم ينم- يوم الثلاثاء 8/12/2015 على نبأ استشهاد الشاب الوحيد بين 5 بنات، مالك أكرم شاهين (19 عاماً)، الشاب الهادئ الطيّب المحبوب بين أهل مخيمه.
وصار يوم الثلاثاء من أشد الأيام بؤساً على مدينة بيت لحم، والتي ودعت فيه الشهداء عبد الرحمن عبيد الله، ومعتز زواهرة، ومأمون الخطيب وأخيراً وليس آخراً مالك شاهين.
مالك الذي أنهى الثانوية العامة العام الماضي، ولكنه فضل الشهادة على العلم، على الرغم من محاولات أمه العديدة لثنيه عن هذا القرار لخوفها الشديد على ابنها الوحيد. والذي كان سيبقى سنداً لوالديه وشقيقاته لولا رصاصات الغدر.
تقول والدة الشهيد أنه قبل يومين فقط من استشهاده قام مالك بترتيب غرفة نومه بشكل جيد، وعلق على جدرانها صوراً للشهداء كما وعلق الكوفية الفلسطينية، وكأنه يعلم بأن عائلته ستضيف صورته إلى الصور المعلقة ليزداد الحائط جمالاً ونوراً.
ظهر يوم الثلاثاء الماضي كُفّن مالك في مستشفى بيت جالا الحكومي، وخرجت جنازته من المستشفى اتجاه بيته في مخيم الدهيشة، ليلقي عليه أهله نظرة الوداع الأخيرة، بين دموع سقطت حزناً على فراقه وفرحاً بنوله ما كان يطلبه، وبين زغاريد علت في وسط حارات المخيم.
شُيّع مالك داخل أرجاء حارات المخيم، لينثر مسكه داخل حواريه، وتبقى رائحته محفورة في كل حجر من حجارة المنازل.
وأقيمت صلاة الجنازة عليه داخل مدارس المخيم، ومن ثم شُيّع إلى مقبرة الشهداء ليوارى الثرى إلى جانب من سبقوه من كوكبة شهداء المدينة.
وشهدت مدينة بيت لحم مواجهات عنيفة عند المدخل الشمالي للمدينة بعد تشييعه، وكأن شبانها يقولون للاحتلال: “خذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا”.
عائلة الشهيد مالك تفتقده الآن، فهو الابن الوحيد البار بوالديه، والمحب لشقيقاته، وسند العائلة، فالدموع لا تفارق عيون أمه وأخواته، أما والده فيبدو باستشهاد ابنه الوحيد منهكاً، فالتعب الشديد يظهر على ملامحه، فهو الذي كان يعتبر مالك عكازه في المنزل. best viagra online viagra.