جاءت عملية قتل الجنود الإسرائيليين، أمس، مفاجئة ومربكة لكل من إسرائيل ومصر، لكنهما سارعتا لاحتوائها حفاظاً على العلاقات الإستراتيجية بينهما، لا سيما أنها تقوم على منظومة مصالح أمنية واقتصادية ودبلوماسية بينهما.
الحدود بين إسرائيل ومصر تمتد من رفح إلى طابا على خليج العقبة، وهي ذات الحدود التاريخية التي رسمتْها الدولة العثمانية بين فلسطين ومصر، وتمتد على نحو 240 كيلومتر.
محلل إسرائيلي: الحدود مع مصر خادعة؛ ظاهريًا، هذه حدود سلام، وعمليًا ساحة معركة معقدة، حيث تعيش الحدود تهديدات الإرهاب، في وقت واحد مقترنةً بتهديدات الجرائم والتهريب.
منذ توقيع اتفاق السلام بين إسرائيل ومصر، عام 1979، تعتبر هذه الحدود محصنة جداً، آمنة وحدود سلام، حتى جاءت هذه العملية لتذكر بأن السلام المذكور يقوم بين أنظمة لا بين شعوب، حتى وإن كان منفذها عنصراً واحداً في الشرطة المصرية. يشار إلى أن سياجاً أمنياً بارتفاع خمسة أمتار وأكثر يمتد على طول هذه الحدود، وهو مدعم بمنظومة رقابة وتجسس وكاميرات حراسة، علاوة على دوريات وثكنات عسكرية. وقد بُنيت هذه المنظومة الدفاعية بعد عملية سابقة، وقعت في أيلول/ سبتمبر 2012، وفيها فتحَ مسلحون مصريون النار على حافلة، وقتلوا فيها نحو عشرة إسرائيليين، وأصابوا نحو أربعين آخرين.
وعلى خلفية ذلك، جاءت العملية مباغتة وصادمة لإسرائيل بالذات، والحديث يدور عن تنسيق أمني غير مسبوق بينها وبين المؤسسة الأمنية المصرية. وقد عبر عن ذلك عدد من المراقبين الإسرائيليين، منهم المحلل للشؤون العسكرية في القناة 13 العبرية ألون بن دافيد، الذي قال، أمس، إنه شاهَدَ في العامين الأخيرين ضباطاً مصريين في “قدس أقداس المؤسسة الأمنية” الإسرائيلية، وأنه لم يرد حتى في خياله أن يراهم في قواعد عسكرية تعتبر الأكثر سرية في إسرائيل.
ومما زاد من قوة المباغتة والصدمة أن منفذ العملية عنصر واحد وحيد، نجحَ باقتحام الحدود، وقتل جندياً وجندية وهما في ثكنة الحراسة، فجر السبت، دون أن ينجحا بإطلاق رصاصة واحدة نحوه، والنجاح أيضاً بالاختباء، طيلة ساعات، داخل النقب، في أراضي 48، والاشتباك لاحقاً مع قوات إسرائيلية معززة كانت تبحث عنه، فقتلَ جندياً ثالثاً، وأصاب رابعاً، قبل أن يستشهد.
الأسئلة الصعبة
ولذلك فإن التحقيق الإسرائيلي، والتحقيق المشترك مع مصر، يتركزان في الأساس بالبحث عن أجوبة لأسئلة كثيرة عملياتية وميدانية تلقي الضوء على حقيقة ما حصل، ومحاولة استخلاص الدروس، لمنع تكرارها مستقبلاً.
قبل أن تنتهي لجنة التحقيق في الحادثة، تُطرح في إسرائيل أسئلة صعبة كثيرة حول سلسلة الإخفاقات التي قادت لهذه النتيجة الموجعة بالنسبة لجيش الاحتلال: سماع رصاص في الفجر، لكن الدورية تذهب للتثبت من حال الحراس بعد ساعات. كيف دخل الشرطي المصري، ونجح بقتل الجندي والجندية دون تنبّه أحد؟ لماذا لم ينتبه أي أحد للشرطي المصري وهو يعبر الحدود، ولم يسمع أحد إطلاق النار عندما أطلق النار وقتل جندياً ومجندة، وفقط بعد مرور الساعات بدأت المطاردة؟ هل كان من الصواب الإسراع لاقتحام المنطقة بعد قتل الجندي والجندية؟ وهل تم اتخاذ جميع تدابير السلامة الممكنة؟ ولماذا لم تستخدم طائرة ما دام علم الجميع أن هناك “مخرباً” ما زال مختبئاً، بعدما تمت الاستعانة بطائرة مسيّرة صغيرة اكتشفت موقعه؟
روايتان مختلفتان
منذ الكشف عن أمر الحادثة أفادت تقارير وتصريحات إسرائيلية بأن الحديث يدور عن عملية أمنية وعملية تخريبية قام بها “مخرّب” يرتدي الزي البوليسي، أو “شرطي مصري مخرب”، فيما قال الناطق العسكري المصري إن الشرطي المصري طاردَ مهربين لممنوعات، ووقع اشتباك خلال ذلك قُتل فيه ثلاثة إسرائيليين. لكن، حتى في الجانب المصري، هناك روايتين؛ واحدة للإعلام، والثانية للقنوات المباشرة، وفيما سَخِرَت وسائل إعلام إسرائيلية من هذه الرواية المصرية لما حدث حرصت إسرائيل الرسمية على التعامل بحذر مع المسألة، وامتنعت عن استخدام مصطلحات مهينة ونصوص مسيئة لمصر وللناطق المصري. وجاء ذلك بعدما بادر وزير الدفاع المصري محمد أحمد زكي لمهاتفة نظيره الإسرائيلي يوآف غالانت وعبّر عن أسفه للحادثة، واعترف برواية مختلفة تماماً عن رواية الناطق العسكري المصري، بأن “شرطياً مارقاً مصرياً” هو من نفّذَ العملية، وأن مصر معنية بالمشاركة في تحقيق يبحث عن حقيقة ما حصل، كي لا تتكرر الحادثة، وفق ما أكدته القناة العبرية 13.
ليست حدود سلام كامل
على غرار مراقبين إسرائيليين كثر، يرى المحلل العسكري في صحيفة “هآرتس” عاموس هرئيل أن هناك سلسلة إخفاقات إسرائيلية ساهمت في نجاح منفذ العملية، لكن هارئيل يرى أيضاً أن الحادث على الحدود المصرية هو تذكير مؤلم للواقع، أنه بالرغم من السياج والإجراءات الأمنية الكثيرة، فإنه من الصعب منع جندي واحد عندما يصرّ على تنفيذ عملية، وحذَّرَ من أن نجاح العملية يمكن أن يشكل مصدر إلهام واقتداء بالنسبة لآخرين من أجل القيام بعمليات شبيهة لاحقاً. في كل الأحوال فإن التحقيق الإسرائيلي والتحقيق المشترك لا يبحثان في نقاط خلاف، وفي الهوة الكبيرة بين الروايتين الإسرائيلية والمصرية المعلنة حول ظروف الحادثة، بل هما محاولة هدفها واحد؛ البحث عن نقاط الضعف والإخفافات الكثيرة التي مكّنت الشرطي المصري من تنفيذ عمليته، التي ما زال الغموض يعتري بعض تفاصيلها، ولم تنجل بعد.
ألون بن دافيد قال إنه شاهَدَ في العامين الأخيرين ضباطاً مصريين في “قدس أقداس المؤسسة الأمنية” الإسرائيلية، ولم يرد حتى في خياله أن يراهم في قواعد عسكرية تعتبر الأكثر سرية.
هذا ما دفع المحلل العسكري في صحيفة “يديعوت أحرونوت” يوسي يهوشواع للقول، في تعليقه اليوم، إن الفشل باستعدادات الجيش الاسرائيلي واضح للعيان منذ الآن وقبل انتهاء لجنة التحقيق. لا يمكن وصف ما حصل الا بكلمة واحدة: الفشل”.
صدى الرصاص
والواضح المؤكد الآن، ولا ينتظر مخرجات لجان تحقيق، أن هذه العملية موجعة بالنسبة لإسرائيل لعدة أسباب؛ أولها نجاح عنصر مصري واحد بقتل ثلاثة جنود، وإصابة رابع، وهو بمفرده، بعد فترة طويلة من تسويق إسرائيل لجيشها بأنه لا يقهر، وينجح بعمليات دقيقة في عمق المدن الفلسطينية بسلاسة، ودون إصابات في صفوفه، ثانيها المباغتة،
فالأنظار الإسرائيلية كانت موجهة للضفة الغربية وإيران، وقبل ذلك كانت لقطاع غزة، ولم يكن متوقعاً أن يفتح “باب الشر” من جهة حدود السلام مع مصر.
بوقوعها كشفت العملية عن واقع مغاير للصورة التي تنسجها إسرائيل في وعي مواطنيها، ووعي الآخرين، مثلما كشفت عن عدة إخفاقات، أخطرها نجاح الشرطي المصري، وعن بعد 150 متراً بقتل جندي ثالث، وإصابة رابع، خلال مهاجمته من قبل قوات خاصة معززة بقيادة جنرال إسرائيلي، هو قائد المنطقة الحدودية بذاته. ولذلك أصابت الرصاصات المصرية هيبة الجيش الإسرائيلي بجراح، وأربكته، ما دفع محررة الشؤون العربية في صحيفة “يديعوت أحرونوت” الصحافية سمدار بيري للقول إن العملية شهدت رصاصات وصل صداها الى تل أبيب والقاهرة وطهران.
الحفاظ على العلاقة الإستراتيجية
ورغم فداحة العملية بالنسبة لإسرائيل، جيشها وهيبتها وصورتها بشكل عام، يبدو واضحاً أنها تعمل من أجل استيعابها واحتوائها وابتلاع وجعها كي تحافظ على ما هو أثمن بالنسبة لها: العلاقات الإستراتيجية مع المؤسسة المصرية الحاكمة، وعلى المصالح العليا المشتركة معها، وعلى رأسها التعاون الأمني الوثيق. وهناك إجماع في إسرائيل على ضرورة استخلاص الدروس مما حدث مع الحرص الكبير لصيانة العلاقات مع مصر، خاصة أن وزير دفاعها، محمد أحمد زكي، قد روى ما حصل بحديث مباشر (بادرَ له هو بخلاف ما كان يحصل في الماضي عقب حوادث مشابهة) مع وزير الأمن في حكومة الاحتلال غالانت، معرباً عن رغبة مصر بالكشف عن الحقيقة، واستخلاص العبر، ومنع تكرار الحادثة.
في مقاله المنشور في صحيفة “يديعوت أحرونوت”، يرى مستشار الأمن القومي الأسبق، الجنرال في الاحتياط غيورا آيلاند، أنه يجب التحقيق بالحادثة والحفاظ على السلام القائم بين الطرفين. وهكذا أيضاً الجنرال في الاحتياط عاموس غلعاد، الرئيس الأسبق للجناح السياسي- الأمني في وزارة الأمن، الذي قال للقناة 12 العبرية إنه ينبغي الحفاظ على العلاقات الحميمة بين إسرائيل وبين مصر، التي “تقدم خدمات كبيرة للجانب الإسرائيلي في عدة مجالات، آخرها التدخل السريع لإطفاء النار كلما اشتعلت في غزة، علاوة على صيانة الحدود الطويلة، ومكافحة الإرهاب في سيناء”. ويؤكد ذلك أيضاً يوآف ليمور، المحلل العسكري في صحيفة “يسرائيل هيوم”، اليوم، ويقول إن إسرائيل ومصر ملتزمتان بتحقيق شامل، مذكراً بأن “الحدود مع مصر خادعة، ظاهريًا، هذه حدود سلام، وهي عمليًا ساحة معركة معقدة، حيث تعيش الحدود تهديدات الإرهاب، في وقت واحد مقترنةً بتهديدات الجرائم والتهريب”.
محلل إسرائيلي: إن الإخفاق باستعدادات الجيش الاسرائيلي واضح للعيان منذ الآن، وقبل انتهاء لجنة التحقيق. لا يمكن وصف ما حصل الا بكلمة واحدة: الفشل.
يشار إلى أن العملية تمت قريباً من جبل العريف وجبل سماوة، في منطقة صحراوية تضاريسها قاسية جداً، على الحدود بين النقب وسيناء، وتشهد في المدة الأخيرة محاولات تهريب ممنوعات واشتباكات مع المهربين. وفي شباط الفائت تم إحباط محاولة تهريب كمية مخدرات غير مسبوقة بكبرها.
يذكر أيضاً أن سيناء خالية من الجيش المصري، تطبيقاً لاتفاق كامب ديفيد، من 1979، حيث تتواجد فيها الشرطة المصرية فقط، لكن إسرائيل، وبوساطة أمريكية استجابت لطلب القاهرة بالسماح بإدخال نحو عشرين ألف جندي عام 2021 تلبية لاحتياجات أمنية في سيناء.