على غير العادة أعلنت وزارة المالية عن صرف نصف راتب للموظفين العموميين يوم غد الثلاثاء، بعد أن تعذر صرف النسب المعهودة بسبب احتجاز إسرائيل لأموال المقاصة التي تشكل نحو ٦٠٪ من الموازنة العامة، مع توقف الدعم العربي والدولي، وشح الموارد المحلية، ما من شأنه أن يتسبب في تعميق الأزمة خلال الأشهر المقبلة، إذا لم تتدخل الولايات المتحدة والدول الأوروبية لتقديم الدعم اللازم للسلطة، والضغط على إسرائيل للإفراج عن أموال المقاصة.
ويرى كتاب ومحللون بأن هذه الأزمة ناجمة بالأساس بسبب مواصلة إسرائيل حربها على الشعب الفلسطيني وعدم الاعتراف بحقوقه المشروعة، وأن الأزمة مرشحة للتعمق في ضوء الحرب المستمرة على قطاع غزة، والاقتحامات اليومية للضفة الغربية، مشيرين إلى أن الحل لتلك الأزمة يكمن في فتح أفق سياسي يفضي إلى إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة.
لم تتمكن الحكومة من الإيفاء بالتزاماتها كاملة تجاه موظفيها، بسبب قرصنة الحكومة الإسرائيلية اليمينية أموال المقاصة، في ظل عزم وزير مالية الاحتلال بتسلئيل سموتريتش، مصادرة ثلاثة مليارات شيقل من تلك الأموال، بينما يؤكد محللون اقتصاديون في حديث لـ”ے”، أن السلطة كانت تتعامل مع بدائل تمكنها من ترحيل أزمتها، لكنها الآن اصطدمت بجدار يمنعها الوصول لتلك البدائل، في ظل مديونية كبيرة متراكمة على مدى تعاقب الحكومات باتت ترهق الموازنة العامة.
ويقول أستاذ الاقتصاد في جامعة النجاح د. نائل موسى: “إن فاتورة الرواتب المرتفعة على السلطة، جعلتها تنفق من إيراداتها 67% للرواتب لنحو 170 ألف موظف مدني وعسكري في الضفة الغربية وقطاع غزة، لكن الأزمة الحالية تضع السلطة أمام مرحلة خطيرة وصعبة، لن يتم تجاوزها سوى بوجود أفق سياسي فقط، وأعتقد أن الأزمة ستتعمق، بسبب ممارسات بن غفير وسموتريتش التي تسعى لفتح جبهة في الضفة، مع الاستمرار بتعميق الأزمة المالية للسلطة”.
ويتابع موسى: “إن الولايات المتحدة الأمريكية حريصة على إسرائيل وأمنها، وربما تمنع هذه الخطوة عبر إيجاد بدائل من خلال حلفائها، بدعم السلطة ماليًا، لمنع انهيارها”.
ويشير موسى إلى أن السلطة جربت في السابق الاقتراض من البنوك، لكن الآن يوجد عليها مديونية كبيرة تقدر بنحو 11 مليار دولار- والآن أصبح الخيار صعبًا- أو ربما اللجوء لقروض دولية- لكنها بثمن كبير- أو اللجوء للتقشفات- وهي غير مجدية ولا تكفي لحل الأزمة، والحل أن يتم الضغط على الحكومة الإسرائيلية للإفراج عن أموال المقاصة وهي أموال فلسطينية، وهو الأمر الأمثل عوض البحث عن بدائل.
ويشدد موسى على أن الموظفين هذه الأيام قدرتهم على التحمل أضعف من قدرتهم في السابق حينما كان الوضع الاقتصادي أفضل، لكننا الآن نعيش مرحلة اقتصادية صعبة، فهي إضافة للحرب على غزة وتأثيراتها، وأزمة الرواتب، هناك أيضًا فقدان لمصدر دخل مهم وهو عمال الداخل الذين لم يعودوا إلى أعمالهم، وكل ذلك أثر على عجلة الاقتصاد الفلسطيني وعمّق الأزمة، وأثّر على كل المجتمع الفلسطيني، مؤكدًا أنه “من الظلم مقارنة المرحلة الحالية الصعبة بالسابق، فنحن أمام كارثة وأزمة حقيقية إن لم يتم الضغط على دولة الاحتلال”.
ويقول أستاذ الاقتصاد في جامعة بير زيت، يوسف داود: “إن الأزمة المالية الحالية من الممكن لها أن تتعمق، كونها مركبة من حجز أموال المقاصّة، وفقدان مصدر دخل مهم وهو العمالة في الداخل، ما يؤثر على عجلة الاقتصاد، كما أننا جربنا حلولاً سابقة، لكنها الآن لم تعد مجدية وصعبة، فالبنوك لا تستطيع حل المشكلة نظراً لمديونية السلطة الكبيرة، وهو ما يجعلها مترددة”.
ويتابع داود: “أما بما يتعلق باللجوء للمنح الخارجية فهي مهمة وممكنة، لكن الاقتراض الخارجي له تبعات وفوائد قد تؤثر على ميزانية السلطة وتزيد الأزمة مسقبلاً، ما يجري يؤكد أنه لا خيار أمام الموظفين سوى الصمود في ظل انغلاق أفق الحلول، وما يجري يزيد الضغوط على المجتمع الفلسطيني”.
ويؤكد المحلل الاقتصادي جعفر صدقة أن “كافة الحلول الفنية للتعامل مع الأزمة المالية استنفذت بشكل تام، وكانت الحكومة السابقة تحاول أن تجد بدائل مؤقتة لإطالة قدرتها للتعامل مع الأزمة لأكبر فترة ممكنة، سواء بتوفير رواتب منقوصة أو اللجوء إلى البنوك أو الضرائب، لكن كل تلك البدائل استنفذت، وخيار اللجوء للبنوك لم يعد متاحًا في ظل عدم وجود أفق لحل الأزمة، وقديمًا كان ينظر للأزمة أنها مؤقتة لثني السلطة عن خطواتها وابتزازها، لكن الحكومة الإسرائيلية الحالية تدفع باتجاه تقويض السلطة والدفع نحو انهيارها”.
ويتابع صدقة، “في السابق كان هناك خيار اللجوء للضرائب وكان هناك توسع فيه، لكن الآن لم يعد متاحاً لوصوله الحد الأقصى، كما أن الاقتصاد الفلسطيني مرْهَق ويعاني انخفاضًا حادًا بسبب الحرب، وحجز أموال المقاصة، وضعف الحركة الشرائية، وتوقف العمال عن عملهم في الداخل”.
ويشير صدقة إلى أن رئيس الحكومة د. محمد مصطفى ومنذ توليه لمهامه يقوم بحركة دائمة ونشاط كبير لمحاولة التعامل مع الأزمة، دون تحقيق أية نتائج حتى الآن.
ويشدد صدقة على أن الأزمة المالية الخانقة تتطلب ليس فقط بالطلب من الموظف الصبر، بل لا بد من القيام بإجراءات من شأنها تعزيز صموده، بالتشاور والاتفاق مع البنوك وشركات الخدمات لإبداء مرونة مع الموظفين، إلى حين أن تتضح ملامح الأزمة، مؤكدًا أن الأوضاع الحالية صعبة وإن استمرت بهذا الشكل قد تدفع السلطة إلى الانهيار، وهو ما تريده إسرائيل، ولا بد من قطع الطريق أمامها، ومحاولة إطالة تحمل المواطنين لفترة أكبر، وعدم التجاوب مع الضغوطات الإسرائيلية، والمسؤولية هنا تقع على عاتق الجميع؛ “قطاع خاص، وحكومة، ومواطنون”، رغم أن المسؤولية تقع على عاتق السلطة والحكومة بشكل أكبر.
ويقول المحلل الاقتصادي وأستاذ الاقتصاد في جامعة النجاح الوطنية، د. سامح العطعوط: “إن الاقتصاد الفلسطيني يعتمد بشكل كبير على مصادر دخل تتمثل بشكل أساسي بمصدر دخل العمال في الداخل والتي تصل إلى 22 مليار شيقل سنويًا وتم خسارتها بعد الحرب على غزة، وهي تشكل 35 بالمائة من موارد الاقتصاد الفلسطيني، أما المورد الثاني فهو رواتب الموظفين والتسديد للقطاع الخاص والتي تشكل 64 بالمائة من موارد الاقتصاد الفلسطيني، وهي تعاني أزمة بسبب توقف أموال المقاصة وبسبب تقطيع أوصال الضفة بالحواجز وإعاقة عمل المؤسسات التعليمية وانخفاض استهلاك المحروقات، كل ذلك كبد الاقتصاد ككل خسائر فادحة”.
ويتابع العطعوط: “إن البحث عن حلول للأزمة الحالية يجب أن يكون خارج الصندوق، وليس تقليديًا، وحجم الأزمة الموجودة تؤشر إلى أنه لا يوجد أفق قريب للعودة للنموذج الاقتصادي القديم، بل يجب البحث عن نموذج آخر جديد يعتمد توطين المنتجات المحلية والإنتاج الزراعي، وبناء اقتصاد اجتماعي مقاوم، ويؤدي لتثبيت الناس على أرضها، وضرورة العمل على إعادة هيكلة الموازنة، وترتيب أولويات الإنفاق الحكومي، والسعي لصرف رواتب الموظفين بقدر ما تستطيع الحكومة”.
دلالات