ما الذي يدفع الإنسان ليكره نفسه؟ ربما خوفه من أن يكون على خطأ! أو لجُبنه عن القيام بما يجب! وأحياناً لضآلة نفسه في نظر نفسه لعدم اضطلاعه بما يتوقع الآخرون منه! أو لأي أمر آخر في الدنيا. ولو تأملنا الأسباب لاقتنعنا أنها إنما تعني ما يلحقه الآخرون بك من أذى، فليس كل امرئ باستطاعته إحاطة نفسه بأسوار دفاعية محصّنة بحيث يصبح من العسير النفاذ إليه من خلالها. هذه العملية الدفاعية تحتاج إلى قوة كافية ليكون المرء عليها. ومن الطبيعي أن قوى البشر تختلف وتتفاوت. ومن الطبيعي أكثر أنها أقل دفاعاً حين يتعلق الأمر بالمحيطين والدائرة القريبة. ومن هنا يأتي التأثر. من وصاية الآخر عليك وتدخّله في تفاصيل حياتك. وتبرّعه من تلقاء نفسه بإبداء آرائه فيها، وانتقاداته لما تفعله وتقوله. فتهتز ثقتك بنفسك، وتلومها على سلوكها وقرارها، ومن اللوم إلى العتاب والندم، ومنها جميعاً إلى الشعور بالضيق من نفسك، والذي لا تستبعد أن يتحول إلى كره هذه النفس لإحساسك بأنها خذلتك.
طاقة الندم المدمرة تلك التي ترشح من الخارج إلى داخلك، لو تعمّقت فيها لوجدت أن أكثرها نابع من رغبتك في أن تكون عند ظن الآخرين بك، وعندما لم ينعم الغير عليك بوسام الاستحسان والتطمين، وزادوا في تأنيبهم لك. تضخّم في عقلك شعورك بالذنب تجاه أكثر من جهة، فيعيش الإنسان ويتحرك في دائرة الذنب، وما أبشعها من أيام تمضي بهذا الشعور المزعج. وسؤالي: لِمَ يسمح الآخر لنفسه، خصوصاً في عالمنا العربي، بالتدخّل في أخص خصوصيات غيره مدّعياً النصح والتوجيه؟ لم تسود ثقافة الوصاية هذه في مجتمعاتنا وبين أهلنا ومعارفنا؟ والمحزن أن الواحد منا مهما تخلى عما يحب ويحلم به لينال رضا الآخرين عنه، يظل في نظرهم المقصِّر. فهل هذا مفهومنا عن السلام؟ أن يوافق الابن مزاج أبويه، والصديق هوى صديقه، والموظف لون مديره. كله بالزخارف نفسها، مع أن أياً منا يملك صفاته التي تميّزه. ورغباته في خوض أموره بالطريقة التي يفكر بها عقله، فلِمَ على المجتمع أن يفرض عليه دوماً أسلوباً جماعياً في كل شيء؟ ولا يكف أن يتساءل لِمَ لمْ تحاكه في حياتك؟
نحتاج إلى الشجاعة للتميّز عن الآخرين، والتجرّؤ للقفز فوق الحواجز المتعارف عليها. فهل المطلوب من كل امرئ أن يمتلك هذا القدر من الشجاعة فقط لأنه «غير»؟ لم لا يدعه الآخرون في حاله يخوض تجربته ونتائجها؟ فكل امرئ يتمتع بشخصية مختلفة كاختلاف بصمات الأصابع، لكننا لا نود أن نصدق ذلك. ثم نتساءل عن الإبداع ونتذمر من سياسة القطيع! فأي تناقض؟ أمّا الأكيد فهو أن قوانيننا لم توضع لتحل مشكلاتنا، ولكن لتطيل فترة خلافنا وحيرتنا، ومعهما تعبنا النفسي وإرهاقنا العضوي. فعلاً، بلاء الإنسان من الإنسان، والأجهل من هذا كله أن تجد من يجازف فيكون مختلفاً ولكن بأحط أنواع الاختلاف وأسخفها على وجه الأرض. على أنه يبقى اختلافاً على أي حال.
يقول الشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف: «لا تَلُمْ الحصان. لُم الطريق. فلا يمكن أن تحصل على ظل مستقيم من عصى معوجّة». أمّا نحن فنبذل جهدنا طوال الوقت للضغط على الظل بدل أن نجعل الطريق مستقيماً، فنقضي على الجميع ناسين أنهم ظلال. وهذه الطريق المعوجّة هي مجتمعك الفوضوي بقوانينه المعطّلة وعقوباته المتحيّزة، بفقر نوعية تعليمه وثقافته، وبتفاهة طموحاته وتطلّعاته، ومع ذلك كله، وعلى افتراض مثالي وغير واقعي بأن هذا المجتمع استفاق يوماً فوجد أن طريقه مستقيمة، وأن حاله انصلحت في أمور كثيرة، إلاّ أن هذا لا يعني أن من حق أحد أن يكون وصياً على أحد إن شذّ عن الطريق العام مثلاً. فالإنسان حرّ في الخروج عن المسار، كما أنه حرّ في تحمّل تبعات خروجه، فليس عليك أن توصيه على اعتبار أن عقلك أعلى مرتبة من عقله، فتشعر بأنك الأفضل المتفضِّل عليه. احرص فقط على سن القوانين وعقوباتها ثم دعه، مع العلم أن القوانين العرفية غير تلك التنظيمية، فلا يترتب على مخالفة هذه ما تستحقه مخالفة تلك!