في تلك السهرة البيروتيّة التي طالتْ، وكنت عائداً من لندن، لاحظت فتاة في الغرفة الأخرى تجالس أميّة.
tadacip cheap. مَن هذه يا جوزيف؟ فقال إنّها محرّرة في «السفير» سبق أن عملت معه، وهي الآن صديقة ابنته. لكنّه قال أيضاً إنّها ابنة أبي حسن المير. وحين ذكرت له أنّني كنت أعرف أباها، ظهر عليه شيء من التأثّر وطلب منّي أن أُخبرها بأمرٍ ظنّه يُفرحها. دخلت إلى الغرفة حيث كانت فعرّفتها بنفسي وقلت لها إنّني عرفت والدها فيما كانت السهرة توشك على الانتهاء. وما كدت أنهي عبارتي حتّى انقضّت عليّ رلى وفي عينيها دموع تكاثرت لتوّها، فعانقتْني وتوسّلت إليّ أن أسرد لها كلّ ما عندي عنه. ذاك أنّ رلى لم تعرف أباها الذي اغتيل بعد سنوات قليلة على ولادتها، وتراءى لها أنّ كلّ معرفة تُحرزها به معنًى إضافيٌّ يتحقّق لها ونوع من التمكين في أرض من صلصال.
بعد فترة لم تطل، قرّرتْ رلى أن تنتقل إلى لندن وأن تعمل في البي بي سي. وهنا أيضاً تدخّل جوزيف فسألني «أن أُبقي عيني عليها». وأسبوعاً بعد آخر، تطوّرت بيننا صداقة مشوبة بشيء من الأبوّة، لكنّها مشوبة أيضاً بشيء من التوتّر. فسياستي لم تكن تعجب رلى المشدودة إلى ماضٍ شيوعيّ كانت الأيّام تمتحنه بقسوة بالغة. لقد رأت فيّ الهرطقة ورأيتُ فيها الإذعان والتسليم. فهي ظلّت وفيّة لوالدها الشيوعيّ أبي حسن ولكلام سمعته من أصدقائه ومجايليه، وأنا ظننت أنّني وفيٌّ له بطريقة أخرى هي رفض قاتليه.
وفي هذه الغضون نشأت صلة غير معهودة بين رلى التي كانت تبحث عن توسيع عالمها وعن تكثير أهلها، وبين ميّ التي كانت، بدورها، تبحث عن الابنة التي لم تلدها.
وعاش واحدنا قريباً من الآخر، فكنّا نتقاسم المسرّات والأحزان، ونتشارك في الأصدقاء الجدد، وكم كان يُغضبني تأخّر رلى عن المواعيد في بريطانيا التي تُنسب إليها دقّة المواعيد، وكم كان يُضحكني أن توجّهنا رلى وهي تقرأ خريطة المدينة بحيث تنتهي بنا السيّارة في مكان معاكس للمكان الذي أردناه. وواكبْنا، ميّ وأنا، غراميّات رلى التي كانت تذكّر بأولئك الذين يموتون في الغرام في الأفلام المصريّة. وكنّا نخطّط وننسّق الخطط محاولين السيطرة على ذهابها في المشاعر كلّ مذهب. لكنْ، حين توفّيت ميّ وجوزيف، شعرت بأنّ رلى سطر لم يُكتب من وصيّة الاثنين. وإذ رحنا نفرش بيننا وجوه الموتى الكثيرين الذين تعاقدنا على حبّهم، صارت الأماكن لا تفعل إلّا التذكير بالأحبّاء هؤلاء. وبات تنفيذ الوصيّة يستدعي اللحاق برلى، كما يستنفر فيّ شيئاً من أبوّة لا أراها أصيلة في نفسي. بيد أنّ طموحاتها كانت مسرعة يصعب اللحاق بها. وكان للطموحات هذه أن قادتها إلى الولايات المتّحدة ثمّ إلى العراق الذي رجوتها ألّا تذهب إليه بسبب خطره. غير أنّ رلى، التي أرادت أن تجمع ما تيسّر من مال كي تنهي تعلّمها، أصرّت على الذهاب، ترافقها ضحكة الأطفال ودهشتهم الطيّبة.
وذات يوم بدأت رحلة العذاب الطويلة. فالأخطار التي لم تظهر في العراق كانت تظهر في جسدها. أمّا الأعداء فغدوا يقيمون لا في الانفجارات المتنقّلة في بغداد، بل في الروائح والغبار والأطعمة. ورلى قاومت الأعداء الجدد، الزاحفين زحف الجراد من الأمكنة الكثيرة، وظلّت تدافع عن حبّها الحياةَ، مثلما ظلّت تطلب الحياة ولو في اليابان.
كتب سهيل أنّها انضمّت أخيراً إلى النجوم. أضيئي علينا من هناك يا رلى، أضيئي من حيث تقيمين.