ليس دفاعا عن السكاكين!

يعيش الإسرائيليون خوف السكاكين والحجارة، وتصوّر سلطات الاحتلال الأمور وكأن اليهود يعيشون تحت خطر «الاعتداءات» الفلسطينية، التي لا سبب لها. بل ان بعض الإعلام الأمريكي يصوّر سكاكين الفلسطينيين وحجارتهم وكأنها تعبير عن اللاسامية وكراهية اليهود! المسألة ليست في كيفية الردّ على مثل هذا الكلام المعجون بالابتذال والعنصرية، فالمحاججة مع محتلّ لا يرى في نفسه محتلاً، بل يُخيّل اليه أنه صاحب الأرض التي وعده بها الله منذ آلاف السنين، مستحيلة وتقود إلى لا مكان.
إسرائيل مصابة بالعماء، فهي لا تريد أن ترى، وهذا العماء هو جزء تكويني من الرؤية الصهيونية لفلسطين. فلسطين لا وجود لها، وسكان البلد الأصليين مجرد «محتلين». الصهيونية العلمانية بجناحيها العمالي والتصحيحي تمتزج اليوم بصهيونية دينية. وفي امتزاج عنصريتي الفكر القومي والفكر الديني، تحولت اسرائيل اليوم إلى قلعة للوحشية والتمييز العنصري والعماء المطلق.
المسألة ليست السكاكين، التي انتهت إلى إلصاق تهمة السكاكين بالضحايا الفلسطينيات والفلسطينيين حتى لو لم يحملوها، وتحولت إلى قتل لليهود الشرقيين من ذوي الملامح العربية، بل المسألة تكمن في المرض الصهيوني، الذي هو أحد أصول بلاء المنطقة بالانحطاط والأصولية. وهومرض لا علاج له.
مريض مدجج بالسلاح النووي ويصرخ خوفاً من رماة الحجارة! معتوه يحتل بلاد الآخرين وهو يحمل يقيناً دينياً بأن هذه الأرض بما عليها من زرع وضرع وبيوت، هي ملك له، ورثها عن كتاب عتيق، فسّره بصفته مسوغاً للجريمة، ودليلاً للقتل.
لم يدخل هذا المرض في حسابات المفاوضين الفلسطينيين في مراحل المفاوضات العقيمة التي دارت منذ أكثر من عشرين سنة، فاعتقدوا بسذاجة أن الضغط الأمريكي، الذي لا وجود له، كفيل بحلحلة عقد المحتل النفسية، وتخفيف شهوته إلى احتلال الأرض!
كيف يستطيع البشر مفاوضة «الحق الإلهي»؟ وكيف يمكن التوصل إلى حل وَسَط مع من جعل المطلق دليله.
لذا شهدت فلسطين خلال كذبة السلام الطويلة عملية قضم وقتل واستباحة لا حدود لها، ولذا وجدت القيادة الفلسطينية، التي ارتضت الاستسلام سلاماً، نفسها عاجزة عن الاستسلام لمحتل لا يملي شروطاً سياسية أو جغرافية، بل شروط تعجيزية هدفها تحويل المفاوضات إلى خدعة تسهل عمليات القضم والضم والتوسع.
جاءت هذه الهبّة الشعبية الفلسطينية الكبرى تعبيراً عن نهاية مرحلة الاستسلام. لقد فهم الشعب الفلسطيني أن من يرفض استسلام القيادة الفلسطينية هدفه الوحيد هو إبادة الفلسطينيين سياسياً تمهيداً لتأسيس الشروط التي تسمح له بطردهم من بلادهم.
هذه الهبّة ليست دفاعاً عن القدس أو الأقصى فقط، بل هي دفاع عن كل الأرض المحتلة. فالذي اجتاح دوما بالنار وأحرق أفراد عائلة الدوابشة وهم نائمون في منزلهم، أعلن أن اللغة الوحيدة التي يعرف أن يخاطب بها الفلسطينيين هي لغة النار.
الذي أشعل الهبّة الشعبية هي السلطة الإسرائيلية التي تقودها عصابات المستوطنين والمهووسين الدينيين والفاشيين. يجب أن لا يخطئ أحد في قراءة ما يجري اليوم. فالكتلة القومية الدينية العمياء التي تقود إسرائيل، هي التي بدأت حرب إذلال وتطويق وترهيب الضفة والقدس، وكانت تعتقد أنها قادرة على ضبط ردود الفعل الفلسطينية، عبر الاتكاء على البناء السلطوي الهش الذي أسس طبقة كاملة من المستفيدين من بقاء الاحتلال، واستمرار سلطة تابعة للمانحين الدوليين، الذين انتهى بهم الأمر إلى ستر عورات الاحتلال بالمال.
هذه ليست انتفاضة سكاكين، مثلما يُشاع، فالسكاكين لا تستطيع أن تكون بديلا عن سلاح التنظيم الشعبي، انها يقظة وعي وكرامة بدأت بأفراد أرادوا التعبير عن غضبهم، وأعلنوا أن الضحية تستطيع أن تدافع عن نفسها حتى في لحظة موتها.
وهي ليست انتفاضة القدس، رغم أن القدس تحتل موقع القلب فيها.
وهي ليست انتفاضة المناطق المحتلة عام 67، رغم أن الضفة تقاوم الخنق والوحشية الاستيطانية، وغزة تقاوم الحصار.
وهي ليست انتفاضة الناصرة والجليل والمثلث والنقب، رغم الأفق الكبير الذي تفتحه مشاركة فلسطينيي هذه المناطق المحتلة منذ 48.
انها هبّة كل فلسطين، وهدفها ليس الوصول إلى تسوية مع من لا يريد تسوية ومن الحمق الكلام معه عن تسوية، بل هدفها استعادة فكرة فلسطين، بصفتها فكرة حق وعدالة وحرية.
تستطيع هذه الهبّة تحقيق انجازات صغيرة، وخصوصاً عبر ردع المشروع الإسرائيلي الأحمق بتقسيم الأقصى تمهيدا لتهويده. وهذا الهدف على أهميته وضرورته، ليس جوهر الموضوع.
الموضوع ببساطة هو استعادة الشعب الفلسطيني لهويته ولغته التي أضاعها الاستسلام المتمادي، وعبث بها الانقسام بين سلطتين تافهتين وعاجزتين.
فالإنجاز الذي تستطيع هذه الهبّة تحقيقه هو استعادة لغة الحق الفلسطيني، التي تاهت بين استسلام تنازلي أفقد القضية هويتها، ولغة أصولية تقسّم الشعب وتفتته وترهنه للمحاور الإقليمية.
تقول هذه الهبّة للمحيط العربي ان فلسطين هي المحور وليست جزءا من لعبة المحاور الإقليمية التي تقوم بتدمير المنطقة، لأن فلسطين تقع في التناقض الرئيسي مع عدو امتهن إذلال المنظقة.
وتقول أيضاً انها هبّة المخيمات في الداخل، التي تبعث برسالة واضحة للشتات في مخيماته المدمرة والمهددة بالدمار، بأن الشعب الفلسطيني وحدة لا تتجزأ، وأن قضية حق العودة ستبقى رأس القضايا.
وتقول أخيراً بأن القيادة الجديدة تولد في النضال. وكما ولدت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في قواعد الفدائيين وليس في كواليس المؤتمرات والمؤامرات، فإن لجان الدفاع الشعبي الفلسطيني التي تتشكل اليوم، ستحبل بقيادة جديدة شابة تولد في رحم النضال والمقاومة.
أطفال يواجهون البنادق، صبايا وشبان يتحدون المحتل بالحجارة والصدور العارية، شبان يرقصون في مواجهة جحافل الجنود، نظارات طبية تحملها امرأة شابة تخيف أكثر من السكاكين، هذا شعب لن يموت، وسينتصر.

الياس خوري tadalafil kaufen in deutschland.

عن admin

شاهد أيضاً

العرب وإسرائيل وبناء السلام الإيجابي

بقلم:د. ناجي صادق شراب الفرضية الرئيسية التي يقوم عليها البناء الإيجابي للسلام، هي العمل على …