مأزق الديمقراطيين فى الحراك الأمريكي

بقلم: الدكتور محمد السعيد إدريس

اختار الديمقراطيون أن يمسكوا العصا من الوسط في تعاملهم مع الاحتجاجات الشعبية الواسعة على مقتل فلويد؛ كي لا يعطوا ترامب فرصة للاستثمار في الانتخابات الرئاسية المقبلة.

على الرغم من أن حركة الاحتجاجات الشعبية التى خرجت بالملايين في معظم الولايات والمدن الأمريكية الكبرى عقب مقتل المواطن الأمريكى جورج فلويد من أصل إفريقي قدمت دعماً كبيراً للحزب الديمقراطي ومرشحه جو بايدن المنافس للرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى يوم 3 تشرين الثانى القادم، فإنها، كما وضعت الرئيس ترامب والحزب الجمهوري أمام أسوأ تحدياته، خصوصاً أنها جاءت في الوقت الحرج قبيل خمسة أشهر فقط من الانتخابات، كما أنها فرضت أيضاً تحديات لا تقل صعوبة بالنسبة للديمقراطيين، وحالت بينهم وبين فرص كانت متاحة لتجديد مكانة الحزب الديمقراطي في أوساط قاعدة شعبية واسعة بدت تواقة لحدوث التغيير في المجتمع الأمريكي.

أدرك الديمقراطيون، وعلى رأسهم الرئيس السابق باراك أوباما، ونائبه جو بايدن الذي أضحى منافساً على كرسي الرئاسة في مواجهة ترامب أن هناك قيوداً، ليست سهلة، تحول بينهم وبين تزعم حركة الاحتجاج الشعبية، وأنهم، لو انساقوا وراء هذه الرغبة المغرية سيقعون في «حفرة» لا قدرة لهم في النهوض منها، لسببين، أولهما أنهم، أي الحزب الديمقراطى مع زعمائه ومن يمثلونه في مجلسي النواب والشيوخ، وكذلك حكام الولايات وكبار شخصيات الدولة جزء أصيل من الطبقة الحاكمة الأمريكية التي أضحت مدانة شعبياً، قد تختلف أيديولوجية الحكم، بين ليبرالية الديمقراطيين ويمينية الجمهوريين، لكن الجميع يشتركون في الانتماء إلى الطبقة الحاكمة وامتداداتها في التجمع الصناعي العسكري ومجمل القوى الاقتصادية الكبرى.

وتورط الحزب الديمقراطي في قيادة حركة الاحتجاج كانت ستضعه ليس فقط في مواجهة الجمهوريين ومن يدعمونهم؛ بل أيضاً فى مواجهة أنفسهم والقوى الاقتصادية الكبرى الداعمة لهم، وكان مثل هذا الخطأ سيكون أعظم هدية يقدمونها للرئيس ترامب كي ينقض على منافسه بايدن للقضاء عليه انتخابياً قبيل أن تبدأ الانتخابات؛ لذلك حرص الديمقراطيون كثيراً على الإمساك ب«العصا» من الوسط؛ من خلال الإعلان الواضح عن دعم ما يعدونه «مطالب مشروعة للمتظاهرين» وخاصة توجيه انتقادات لاذعة لمشكلة «العدالة غير المتكافئة» وإجراء إصلاحات جذرية في نظام الشرطة، ووضع نظام جديد للعدالة الجنائية، على نحو ما كتب الرئيس السابق باراك أوباما في مقال حمل عنوان «كيف نجعل هذه اللحظة نقطة تحول نحو التغيير الحقيقي» فى مقال نشره على موقع «Medium»، والظهور الفعّال في دعم حركة الاحتجاج وإدانة ما اعتبره «عنصرية»، ما دفع رؤساء البلديات المنتمين للحزب الديمقراطي لرفض قرار الرئيس الاستعانة بقوات الحرس الوطني «الفيدرالية» على نحو ما فعلت عمدة مدينة واشنطن موريل باوزر التي انتقدت تصريحات ترامب العدوانية ضد المتظاهرين، وطالبت بخروج القوات الفيدرالية من العاصمة، وأعلنت إطلاق شعار «حياة السود مهمة» على الساحة المقابلة للبيت الأبيض؛ الأمر الذي عرضها لهجوم حاد من الرئيس الذي اتهمها بعدم الكفاءة.

كان القادة الديمقراطيون يحريصون في ذات الوقت على تجنب أي تصريح أو موقف يمكن أن يُفسر من جانب ترامب والحزب الجمهوري، على أنه دعم للخروج على النظام والتحريض على الفوضى، هذا ما حرص عليه بايدن في تصريحاته، وما أكده الرئيس أوباما في المقال المشار إليه الذى انتقد فيه الفئة التي تعمدت التخريب والاعتداء على الممتلكات؛ لكنه عالج، بحساسية شديدة الموقف حيث قال: إن «الأقلية الصغيرة من الناس الذين لجأوا إلى العنف بأشكال مختلفة، سواء كان ذلك بسبب الغضب الحقيقي أو لمجرد الانتهازية، يعرضون الأبرياء للخطر، ما يزيد من تدمير الأحياء التي في الأغلب تفتقر إلى الخدمات والاستثمار، وينتقص من الهدف الأكبر من وراء التظاهرات».

والتزم بايدن بنفس التوجه، ففي الوقت الذى هاجم فيه بعنف الرئيس الأمريكي لطلبه الاستعانة بالجيش توجه إلى المتظاهرين وجمهرة الأمريكيين بأنه «سينشئ لجنة لمراقبة الشرطة في غضون مئة يوم من بدء ولايته إذا ما فاز بالرئاسة».

وانطلاقاً من هذا الحرص دعم الديمقراطيون دعوة «الإصلاح» وتجنبوا بشتى السبل الانحياز إلى دعوة «التغيير» فبادروا داخل الكونجرس بإعداد مشروع قانون شامل لإصلاح الشرطة يهدف إلى تقليص عنف ممارساتها وتوسيع التدريب وتحسين الرقابة والمحاسبة على المستوى الوطني. واستطاعوا بذلك تفويت الفرصة على تربص ترامب بهم لتصنيفهم كجزء من الأزمة وليس كطرف أصيل في حلها.

وإذا كان المشرعون الديمقراطيون في الكونجرس قد تعمدوا قبيل انعقاد مؤتمرهم الصحفي يوم الاثنين الفائت (2020/6/8) الذي أعلنوا فيه مشروعهم الإصلاحي لجهاز الشرطة، أن يجثوا على ركبهم في مدخل مقر الكونجرس ووقفوا في صمت لمدة 8 دقائق و46 ثانية وهي المدة التي وضع فيها الشرطي ركبته على رقبة جورج فلويد قبل أن يلفظ أنفاسه، فإنهم أكدوا موقفهم الوسطي الإصلاحي من الحدث الذي زلزل النظام السياسي الأمريكي كله، الأمر الذي قد يحول كثيراً دون تحقيق تفوق انتخابي كبير في الانتخابات الرئاسية المقبلة، على الرغم من كل ما يحققه بايدن الآن من تقدم في الاستطلاعات على منافسه دونالد ترامب.

بالاتفاق مع “الخليج”

عن Amer Hijazi

شاهد أيضاً

العرب وإسرائيل وبناء السلام الإيجابي

بقلم:د. ناجي صادق شراب الفرضية الرئيسية التي يقوم عليها البناء الإيجابي للسلام، هي العمل على …