لا رهان على الانتخابات الأمريكية … رهاننا على الذات الفلسطينية

13 أكتوبر 2020آخر تحديث :
لا رهان على الانتخابات الأمريكية … رهاننا على الذات الفلسطينية
لا رهان على الانتخابات الأمريكية … رهاننا على الذات الفلسطينية

بقلم: الدكتور ســائـد الـكونـي

يُعول كثيرٌ من العامة، وبعض الساسة والمفكرين، في فلسطين على فوز المرشح الديمقراطي جو بايدن لتصحيح الاختلال، أو حدوث اعتدال ولو نسبي في موقف الادارة الأمريكية تجاه طرفي الصراع الفلسطيني-الاسرائيلي، عوضاً عن الموقف الحالي المنحاز بالكامل، بل وقل المتماهي مع الموقف الاسرائيلي، والذي يتضح في العنصرية التي تظهرها على الدوام تصريحات المستوطن ديفيد فريدمان، سفير أمريكا لدى إسرائيل، في أكثر من مناسبة، وآخرها تصريحه بأن علم اسرائيل سيبقى يرفرف في الخليل.

ومن السخرية بمكان أن تتطابق هذه الرغبة في الجانب الفلسطيني مع رغبة مماثلة لدى بعض الساسة والمفكرين في الجانب الاسرائيلي الذين يعتقدون بأن ترامب، في دورته الثانية، قد ينقلب على المكاسب التي حققها لدولة الاحتلال خلال فترته الأولى، حال العديد من الرؤساء الأمريكيين الذين ينتابهم نوع من تأنيب الضمير تجاه خذلان اداراتهم في فتراتهم الرئاسية الأولى للحقوق المشروعة للفلسطينيين قُبيل انتهاء فترة ولاياتهم الثانية بقليل، حين لا يكون بمقدورهم فعل شيء يذكر حيال ذلك.

السردية التاريخية لمواقف الولايات المتحدة الأمريكية، باداراتها المتعاقبة، تفند خطأ الاعتقاد بالمراهنة على مواقف مُنصفة أو محايدة لتلك الدولة العظمى تجاه قضيتنا، فكيف بنا الحال اليوم وهنالك اختلال سياسي واعلامي فادح في موازين القوى العالمية والاقليمية ضد القضية الفلسطينية خصوصاً، والقضايا العربية عموماً. وعليه فالمراهنة على أن يكون هنالك تغير ايجابي ومنصف في مواقف أي ادارة أمريكية قادمة تجاه حقوقنا المشروعة كفلسطينيين هو ضرب من الخيال، سواءً بوجود ترامب أو عدمه.أضف إلى ذلك، فإن التفتت الراهن في الموقف العربي، والتسارع من قبل أنظمة بعض الدول العربية للتطبيع مع دولة الاحتلال بحجج واهية، تارةً لأنها قرارات سيادية تخص دولهم، وتارةً أخرى تحت ذريعة خدمة مصالحنا الوطنية، وكأنهم أحرص عليها منا، أو أوصياء علينا، والأدهى من ذلك معايرتنا أننا سبقناهم في التطبيع مع المحتلين بابرامنا اتفاقيات أوسلو، في مقارنة بائسة بين شعب يرزح تحت نير الاحتلال، ودول لا تربطها حدود مع المحتل، ولا يواجهها من قبله تهديد من أي نوع كان، متناسين تخاذلهم التاريخي في إخراج قيادة شعبنا من بيروت، ومن ثَم اضطرار القيادة لعقد اتفاقيات أوسلو المرحلية، ليلتحموا مع شعبهم ويكملوا سوياً مسيرة التحرر والنضال فوق أرضهم الفلسطينية، دون منّة أو جميّل من أيٍ كان.

ومع كل هذا وذاك، الحق أبلج والباطل لجلج، فإن تقبل العالم، وتعاطف بعض ذوي القربى مع السردية الاسرائيلية المندثرة، والمزعوم امتدادها إلى ألفين أو ثلاثة آلاف من السنين، فإن جرح قضيتنا، الذي لا يتجاوز عمره السبعة عقود، لا زال رطباً نازفاً، ومخيمات اللجوء والشتات خيرُ شاهدٍ حي على أنه لم يندثر، ولم ولن يلتئم، إلا باستعادة أرضنا وكافة حقوقنا المسلوبة بالعيش بحرية وكرامة واستقلال فوقها كسائر شعوب العالم. وبرغم الانهزام الرسمي العربي فإن أحدث الدراسات المسحية تشير إلى أن قضية فلسطين لا زالت حيةً تعيش في وجدان ما يقارب ألـ 85% من الشعوب العربية والاسلامية الرافضة لتطبيع الأنظمة جملةً وتفصيلا، وإن جنحت قلة من أنظمتها إليه، يُضاف إلى ذلك رفض أكثر من 46 حزب سياسي في العالم الحر لاتفاقية التطبيع الاماراتية-الاسرائيلية.

وللسائلٍ أن يسأل، وماذا يتبقى لنا من عناصر قوة إذا ما انفرطت مسبحة التطبيع الرسمي العربي؟ وكيف نواجه المرحلة القادمة من تكالب الأضاد على قضيتنا؟، ونقول بقي لنا الكثير واعتمادنا على إيماننا بحقنا ومشروعية قضيتنا. وتمتلك قيادتنا سلاحاً لا يمكن لأحد أن ينتزعه منها ألا وهو حق رفض التوقيع على هذه المسرحيات الهزلية، وبنهاية المطاف “ما بضيع حق وراه مطالب”، وإن كان الاسرائيليون ومن لف لفيفهم قد نجحوا في مقاصدهم في فرض سرديتهم بعد السنين الألفية المزعومة، فإن نَفَس شعبنا أطول بكثير مما يتخيلون، وهم يعلمون ذلك ويتخوفون منه، ولا راحة ولا استقرار أبدي لهم إلا برضوخهم للمطالب الحقّه، ورد المظالم والحقوق إلى أصحابها.

وفي الجانب الفلسطيني، يتوجب على السلطة الوطنية الفلسطينية أن تعيد النظر في حساباتها وخططها واستراتيجيات عملها، فما كان يصلح بالأمس، غير ذي جدوى وفعالية اليوم، ومن المفترض أن يكون خيارنا الاستراتيجي في المرحلة المقبلة المحافظة على بقائنا ككيان وطني جامع، في الضفة بما فيها القدس، وقطاع غزة، والداخل الفلسطيني، والشتات، وفي الوقت ذاته نحافظ على وجودنا فوق أرضنا الفلسطينية، وذلك يتطلب تغييرا في آليات عملنا الاعلامي والميداني.

إعلامياً، فقد أشار الباحث والأكاديمي الفلسطيني د. خالد الحروب، خلال ندوة نظمها قسم العلوم السياسة في جامعة النجاح الوطنية عبر برنامج زووم بعنوان “تطبيع الأنظمة وتطويع الشعوب: التحالف العربي-الاسرائيلي في اقليم مضطرب”، إلى أن المعركة الحقيقية في الاعلام المعاصر هي فيما يسمى “post truth reality”، أي “ما بعد الحقيقة”؛ فالحقيقة ذاتها غير مهمة، وأما المهم فهو كيف تقدم رؤيتك إلى الآخرين، ومقتبساً عن نتنياهو قوله “ليس من المهم أن تكون في صف العدالة، ولكن المهم كيف تطرح قضيتك بعدالة”. وعليه فمهمتنا الاعلامية، وبخاصة المؤسسات ذات الاختصاص، التركيز على ثقافة القيم الانسانية المناهضة للعنصرية التي يقوم عليها هذا الاحتلال، فليس المطلوب من شعوب العالم أن تنحاز إلى قضيتنا، وإنما أن تعادي الظُلم وتُناصر شعب يرزح تحت نير احتلال غاشم، يسلب أرضه، ويُقتّل فريقاً من أبنائه، مرملاً نسائه وميتماً صغاره، ويسجن ويعذب في غياهب سجون الضلالة والظلام فريقاً آخر، ولتُبرز المعاناة اليومية لأبناء شعبنا قاطبةً، ولأسرانا البواسل،كتذكير يومي ومستمر لضمير العالم الحر، بأننا شعب مضطهد يستحق الحرية والحياة. كما أننا اليوم نحيا في عصر الاعلام الموجه، فنرى على سبيل المثال شبكة CNN الأمريكية تعلن تأييدها لجو بايدن، في حين شبكة Fox News تعلن تأييدها لدونالد ترامب، فلم إذن لا تنحاز مواكننا الاعلامية هي الأخرى، بل وغيرها، بتغطيات متحيزة تعرض القيم الانسانية لقضيتنا، بدلاً من النَفَس الحزبي الضيق لبعضها وشغلها الشاغل باثارة بذور الفرقة والفتنة بين أبناء شعبنا. عدا عن أن هذه المهمة الاعلامية هي فرض عين على كل فلسطيني، أفرداً ومؤسسات؛ فلا ينتظر أحدٌ ماذا يفعل أو يقدم الآخر، بل فليبادر هو بما يمكن له أن يفعل ويقدم.

وبخصوص استراتيجيات العمل الحكومي، يتطلب الأمر تحديداً دقيقاً لطبيعة المرحلة الراهنة: فهل نريدها مرحلة تحرر، أم بناء دولة، أم صمود، وأن يتم وفق ذلك وضع الأهداف والخطط والاجراءات للوصول إليها، حسب معايير واضحة تمكن من قياس الاداء وتقييم الانجازات، بما يُشكل دافعية للعمل الجاد نحو الأهداف المرسومة. وكما أرى، فإن الواقع الحالي يُحتم علينا الحفاظ على ما بدأناه من بناءٍ لمؤسسات الدولة، ومواصلته إن أمكن، مع ضرورة العمل على دعم صمود المواطن الفلسطيني فوق أرضه، مُدركين تراجع الدعم الدولي والعربي وارتهانه بالارادة الأمريكية، ما يحتم تضافر جهود القطاعين الحكومي والخاص لتخطي هذه المرحلة الصعبة من تاريخ قضيتنا.

كما أن هنالك ضرورة لتخفيف العبء الضريبي على مؤسسات القطاع الخاص، ومنحها تسهيلات مختلفة تحفزها على تطوير استثماراتها القائمة، وانشاء أخرى جديدة، ما يفسح المجال لفرص عمل جديدة وتخفيض معدلات البطالة لدى الأيدي العاملة.وبدوره فإن القطاع الخاص، وهو المُشغل لأكثر من ثلثي الأيدي العاملة في فلسطين، مطالب في أن يكون له دور بالغ الأهمية وطنياً، لمساندةالسياسات والاجراءات الحكومية الهادفة إلى دعم صمود المواطن، في ظل ما تعكسه النشرات الاحصائية من ارتفاع لمعدل سن الزواج وتكوين الأسرة الفلسطينية بمتوسط 5 سنوات في الريف و7 سنوات في المدينة بسبب زيادة متطلبات الحياة، ناهيك عن ارتباط أولئك الذين حالفهم الحظ في تكوين أسرهم بقروض والتزامات مالية طويلة الأمد بسبب تآكل الرواتب والأجور.

وختاماً، فقد أضفت جائحة كورونا وانقطاع الرواتب الحكومية، وما تبعهما من أثار اقتصادية سلبية على الدخل القومي الفلسطيني، أهمية اضافية للدخل الاقتصادي العام المتحقق من العمالة الفلسطينية في الداخل، حيث تُشير الاحصائيات الرسمية إلى أعداد تزيد عن 120,000 عامل من حملة التصاريح، يضاف إليهم حسب التقديرات ما يقارب الـ 50,000 عامل آخرين خارج التعداد الرسمي، يعملون بمتوسط أجور يراوح ألـ 200 شيكل يومياً، وهؤلاء يشكلون المصدر الرئيسي الثالث للدخل القومي الفلسطيني، ويمكن أن يكون لهم دور تنموي واستثماري، اذا ما وجه جزء من دخلهم إلى مشاريع اسثمارية، عوضاً عن انفاقها الاستهلاكي الطابع. وقد يكون من الأهمية بمكان أن يُفرز لهم من مؤسسات الدولة من يُعنى بقضاياهم ثقافياً وسياسياً وقانونياً وتنموياً، وعدم تركهم ضحايا لديناميكيات العمل الاسرائيلية.