بقلم: الدكتور ممدوح العكر
لا يمكن وصف ما جرى ويجري من قرارات وتراجعات فلسطينية مفاجئة خلال الأيام القليلة الماضية بأقل من أنه يشكل حالة انهيار تام للموقف الفلسطيني وينذر بأوخم العواقب على قضيتنا الوطنية.
هذا يتطلب التحلي بأعلى درجات المسؤولية وأعلى درجات المصارحة وشجاعة الرأي حول ما يمكن وما يجب عمله لوقف هذا الانهيار .
فبعد أقل من ستة شهور على ” القرار الصائب والجريء والذي طال إنتظاره ” بالتحلل من كافة الاتفاقيات والتفاهمات الموقعة مع الجانب الإسرائيلي، أي اتفاقات أوسلو سيئة الذكر وتوابعها خاصة التنسيق الأمني المشين، والتي استمرت طوال ٢٧ عاما من السنوات العجاف خسرنا فيها من لحم ودم قضيتنا أرضا واستيطانا وقدسا وشهداء وأسرى وهدم بيوت وتبعية متواصلة ومتعمقة، كما خسرنا بسبب أوسلو تلك وحدتنا الوطنية وهمشنا بها منظمة التحرير وقضية اللاجئين، جوهر وأساس قضية شعبنا، وتخلينا من خلالها عن فلسطينيينا في مناطق ٤٨، أقو بعد أقل من ستة شهور، ها هي القيادة الفلسطينية الرسمية تتراجع فجأة عن ذلك التحلل من تلك الاتفاقيات والتفاهمات، و بشكل مهين من التبريرات الواهية التي لم ولن تنطلي على أحد. كما تلا ذلك التراجع، وبنفس الشكل المفاجئ والمهين، عن الرفض المطلق للتطبيع والدول المطبِّعة . .
قد يتنطح المتنطحون لتبرير ما جرى ويجري بوصفه انتصارا ومراجعة حكيمة لتقدير الموقف في حين أنه أبعد ما يكون عن معايير المراجعة، وأبعد ما يكون عن مقاييس الحكمة، ناهيك عن أنه لا يمت بصِلَةٍ للانتصار لا من قريب أو من بعيد … هو إنهيار بكل معنى الكلمة .
وأهم دلالة على هذا الانهيار أنه يثبت حقيقة أصبحت واضحة وضوح الشمس ، ألا وهي ان هذه السلطة ، هي عبارة عن كيان مرتبط بحبلٍ سُرّي بالاحتلال الاسرائيلي تماما مثل الحبل السُّري الذي يربط الجنين برحم أمه كمصدر وحيد لحياته وبقائه على قيد الحياة ، (وهذا الحبل السُّري هو اتفاقات اوسلو وعلى رأسها التنسيق الأمني مقابل أموال المقاصة ). لم تستطع سلطتنا ” العظيمة ” ان تصمد أكثر من ستة شهور بدون هذا الحبل السُّري .
وأول بوادر التداعيات المأساوية لذلك الانهيار هذا التهشيم الموجَّه لبصيص الأمل باستعادة وحدتنا الوطنية وإنهاء الانقسام والعمل على بلورة استراتيجية وطنية جديدة لمنظمة التحرير بدءاً بالانتخابات الشاملة وعلى رأسها المجلس الوطني لتجديد شرعية كافة البنى القائمة، كما جاء في مخرجات إجتماع الأمناء العامين للفصائل والقوى الوطنية .
كما أن من بوادر تداعيات هذا الانهيار ما نشهده من التوحش المتسارع في خطوات اسرائيل والولايات المتحدة ضد شعبنا على اكثر من صعيد وأكثر من جبهة في محاولة منهما للإجهاز علينا ما دمنا في لحظة إنهيار .
على أن أخطر الدلالات والاستنتاجات المأساوية لهذا الحبل السُّري هو السؤال المعضلة: كيف يمكن لسلطة بهذا ” المأزق الوجودي ” ( والمتمثل بالحبل السُّري مع الاحتلال )، وبهذا الإنهيار أن تقود شعبها في كفاحه ضدالإحتلال؟ كيف يمكن لقيادة تتراجع بهذا الشكل ان تبث روح الصمود والمقاومة في نفوس أبناء شعبها وأسراه وأهالي شهدائه .
لكل ذلك ، من الواضح ان انهيار الموقف الرسمي الفلسطيني بهذا الشكل المفاجئ والمهين والخطير يفرض علينا ان نمتلك الشجاعة والقول انه لم يعد مقبولا استمرار التفرد بالقرارات المصيرية في هذه الظروف بالغة الخطورة. وبالتالي لا بد من المبادرة السريعة لتشكيل قيادة وطنية موحدة تتحمل المسؤوليات الجسام للمرحلة القادمة. عدا عن أنه ليس بإمكان أي فرد أو ثلة من الأفراد أو فصيل من فصائل العمل الوطني ” التفرد ” في قيادة دفة سفينتنا وسط هذه الأمواج المتلاطمة.
إذا كانت قيادتنا تفاخر ليل نهار بأنها لم ولن تفرط بالثوابت الوطنية فإن أي تلكؤ في أخذ زمام المبادرة لاستعادة الوحدة الوطنية بتشكيل قيادة وطنية موحدة بالمواصفات والمعايير المتعارف عليها للقيادات الوطنية الموحدة التي تلجأ اليها الشعوب في وقت الأزمات … فإن أي تلكؤ في العمل السريع والسلس لاستعادة وحدتنا الوطنية يصبح في حد ذاته تفريطا ً في متطلبات اللحظة الراهنة ، ووصفة مؤكدة نحو التهلكة.
هل تدرك قياداتنا أنه لم يعد لها من دور تاريخي في هذه اللحظة سوى إنجاز هذه الخطوة؟ فهل تمتلك إرادة القرار نحو ذلك؟!