بقلم:جيمس ستافريديس
جاء عزل وزير الدفاع مارك إسبر من منصبه ومغادرة ثلاثة آخرين من كبار الموظفين المدنيين بوزارة الدفاع الأميركية، ليترك الوزارة خالية من الخبرات بعدما لم يتبقَّ بها سوى الموالين للرئيس دونالد ترمب ليديروا ذلك الكيان الضخم في الأيام الستين الأخيرة من إدارته.
ورغم أن فترة شهرين قد لا تبدو طويلة، فإنَّ ترمب يبدو عازماً على إظهار أنه بإمكانه ارتكاب كثير من الأخطاء في تلك الفترة القصيرة.
ويشمل ذلك الإعلان عن انسحاب القوات من أفغانستان، والعراق، والصومال على نحو يزعزع الاستقرار، وفرض عقوبات على إيران، وتقديم تقارير عن شن هجمات جوية على منشآتها العسكرية، ناهيك عن سلسلة من الخطوات الاقتصادية والعسكرية ضد الصين.
لن يكون أي من هذه التدابير مفيداً أو فعّالاً وسوف يكون من الضروري إلغاء كثير من هذه التدابير من قِبَل الفرق الدفاعية والدبلوماسية التابعة للرئيس المنتخب جو بايدن.
ولنبدأ بأفغانستان، فقد أعادت الولايات المتّحدة بالفعل الأغلبية العظمى من القوّات إلى الوطن. وعندما كنت أتولى قيادة «حلف شمال الأطلسي»، كان لديّ نحو 150 ألف جندي. أما اليوم فقد انخفض العدد إلى نحو خمسة آلاف أميركي وعدد مماثل من قوات التحالف، وهو ما يعني أن 95 في المائة منهم قد عادوا إلى ديارهم، والقوات المتبقية موجودة لإجبار «طالبان» على الجلوس إلى طاولة المفاوضات. والواقع أن خطة ترمب الرامية إلى سحب نصف القوات على الأقل قبل أن يترك منصبه سوف تؤدي إلى فجوة عميقة في مفاوضات تطلّب السير فيها جهداً وتخطيطاً كبيرين.
وعلى نحو مماثل في العراق، هناك عدد ضئيل من القوات مقارنة بمائتي ألف أميركي حين كنت أحد كبار مساعدي وزير الدفاع دونالد رامسفيلد في عام 2004. الموجود حالياً حفنة ضئيلة تتلخص مهمتها في مواصلة المهمة المتمثلة في تدمير تنظيم «داعش». ويجري القتال الحقيقي من قبل العراقيين بدعم من الولايات المتحدة للمخابرات واللوجيستيات والتدريب.
الخسائر قليلة للغاية والإنجازات عالية، لكن الآن ليس الوقت المناسب لسحب هذه القوات.
وفي كلتا الحالتين، يبدو من الواضح أن ترمب يريد ببساطة أن ينسب لنفسه الفضل إلى إعادة «كل» القوات إلى الديار – وهو ما جرى غالبيته أثناء إدارة الرئيس باراك أوباما – وإنهاء «الحروب إلى الأبد»، لكن هذه الجهود لن تنجح إلا في تقييد الإدارة المقبلة.
أما بالنسبة لإيران، فإن الضربات الجوية سوف تشكل خطأً فادحاً من جديد. فالنظام في طهران يبدو أنه على استعداد للتفاوض بشأن برنامجه النووي وغير ذلك من القضايا، وأي ضربة مفاجئة، سواء بلا مبرر أو بمبرر، من شأنها أن تزيد من صعوبة التوصل إلى اتفاق جديد وأفضل بالنسبة لإدارة بايدن. ورغم أن خطة العمل الشاملة المشتركة لعام 2015 معيبة إلى حد خطير، فإنها قد تخدم كنقطة انطلاق لصياغة ترتيبات أفضل.
لكن أكثر مكان من المحتمل حدوث خطأ في الحسابات بشأنه هو الصين. فهناك تقارير عن «موقف عدواني» جديد محتمل في بحر الصين الجنوبي، والذي يركز على حرية تسيير الدوريات البحرية، ذلك لأن المناورات البحرية تشكل أهمية كبرى بالنسبة للأمن الأميركي والتجارة العالمية، ولكن لا بد من التخطيط لها مسبقاً ومعايرتها وفقاً للظروف الدبلوماسية والأمنية. وسوف يكون الاندفاع إلى هذه الاتفاقيات بمثابة استفزاز إلى حد كبير في التعامل مع بكين، خصوصاً في ظل تحريك إدارة ترمب مؤخراً أيضاً سلسلة من صفقات الأسلحة مع تايوان.
ويفرض ترمب عقوبات جديدة على مجموعة من الشركات الصينية التي تربطها علاقات مع المؤسسة العسكرية، ويبدو أنه سيعاقب أيضاً عدداً من القادة والدبلوماسيين البارزين في الصين. وسوف يتم تقديم هذه التدابير باعتبارها استجابة للإجراءات الصارمة التي تفرضها الصين على دعاة الديمقراطية في هونغ كونغ ومسلمي الإيغور في إقليم شينغيانغ. لكن ذلك التنفيذ العشوائي من قبل الإدارة الحالية يبدو كأنه لا يرمي إلى تحقيق أهداف أميركيّة طويلة الأمد، بل الحد من خيارات فريق بايدن المقبلة والملحة على الأرض قبل يوم التنصيب.
ويبدو من الواضح أن ترمب يأمل أن يتمكن من المطالبة برصيد سياسي في المستقبل – ربما في إطار إعادة انتخابه في عام 2024. وقد عبر متحدث باسم مجلس الأمن القومي صراحة بالقول: «إذا لم تغير بكين مسارها وتصبح لاعباً مسؤولاً على الساحة العالمية، فإن رؤساء الولايات المتحدة في المستقبل سوف يجدون في السير في عكس اتجاه ترمب التاريخي انتحاراً سياسياً».
سيجد البيت الأبيض في عهد بايدن نفسه منهمكاً في العمل مع الصين حتى من دون اتخاذ ترمب إجراءاته في اللحظة الأخيرة. وأنا أعرف جيداً العديد من أعضاء الفريق الدبلوماسي للرئيس المنتخب الذين يحظون بثقته إلى حد كبير. وهي مجموعة منهجية متمرسة تبدأ بطرح سؤال بسيط: «ما استراتيجيتنا طويلة الأجل في التعامل مع التهديد الصيني؟»، وهو السؤال الصحيح، لكن أياً من إدارتي ترمب وأوباما لم تقدم إجابة مرضية بشأنه.
في كل مرة أتفاعل مع كبار القادة السياسيين والعسكريين والدبلوماسيين الصينيين على مدار مسيرتي المهنية في البحرية الأميركية وكعميد كلية الدراسات العليا في العلاقات الدولية، كنت أندهش من أنهم يفكرون في جدول زمني أطول كثيراً مما يفكر فيه الأميركيون. وكان أكثر ما أدهشني أمران؛ الأول هو أن القيادة الصينية تدير عقوداً من التخطيط العميق والتفصيلي المستقبلي، والثاني هو أن الصينيين يبدو أنهم يعرفون عنا أكثر مما نعرفه عنهم دوماً.
وهذا ليس بالشيء الهين لأنهم ما زالوا يتبعون نظريات صن تزو، الخبير الاستراتيجي وأمير الحرب القديم، الذي نصح الأمة الصينية بأنها ينبغي أن تدرس كل خصم بعمق واتساع وأن تدرس تاريخ خصمها وثقافته وهيكله السياسي وأسلوبه العسكري.
لا تستطيع الولايات المتحدة أن تتصدى لهذا التوجه إلا من خلال الجمع بين كل عناصر قوتها؛ القدرة العميقة على خلق الردع العسكري، وخلق أسواق التجارة الحرة النابضة بالحياة، وتكوين التحالفات الدبلوماسية (خصوصاً ما يسمى «كواد» الذي يضم الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا)، والقدرة على النفاذ ثقافياً عبر كل شيء بدءاً من صناعة الأفلام إلى الفرق الرياضية وقيام تعاون بين أعلى جامعات العالم؛ وتحفيز محركات الإبداع مثل صناعة التكنولوجيا.
ونظراً لرفض ترمب الشراكة عبر المحيط الهادي، والآن قيام الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة بقيادة الصين، فإن الولايات المتحدة تتخلف عن منطقة آسيا والباسيفيكي. وسوف تعمل اتفاقية التجارة الحرة بين 15 دولة تمثل نحو 30 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي على ربط العديد من الحلفاء والشركاء الرئيسيين اقتصادياً ببكين، بما في ذلك اليابان وأستراليا.
ومن المرجح أن تتبع إدارة بايدن استراتيجية العصا والجزرة في مواجهة الصين حيثما كانت ضرورية (الممارسات التجارية غير العادلة، وانتهاكات حقوق الإنسان، والقرصنة الإلكترونية والتجسس، والمطالبات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي)، لكنها سوف تسعى إلى التعاون كلما أمكن. وقد تتضمن بعض مجالات التعاون التغيير المناخي، والاستجابة الوبائية، وغير ذلك من جهود الإغاثة الإنسانية، والتنمية في القطب الشمالي، والحد من انتشار الأسلحة الاستراتيجية، والحد من انتشار الأسلحة في كوريا الشمالية.
وقد بات ذلك النمط واضحاً في جميع الحالات الثلاث – أفغانستان وإيران والصين. ويبدو أن الإدارة المنتهية ولايتها عازمة على خلق ظروف صعبة لفريق بايدن، ما يؤدي إلى زعزعة الأمن القومي الأميركي.
الخلاصة: إن ما تقوم به إدارة ترمب فيما تخرج من الباب في كل هذه المناطق الجغرافية أمر مزعج تكتيكياً، ولكن الفريق القادم قادر على ضمان عدم تأثير ذلك على مشاركة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، والأهم من ذلك المشاركة مع الصين.
عن «بلومبرغ»