بقلم: الدكتور صبحي غندور*
بنجامين فرانكلين، أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة، والذي نجد صورته على ورقة المائة دولار، سئل عن لوحة كان يضعها في مكتبه تتضمن رسماً للشمس في الأفق:
«هل هي شمس الغروب أو الشروق؟»، فـأجاب بأنّ الأمر متروك للناظر إليها لكي يختار ما يريد!
وهكذا هي أمريكا الآن، أمام خيار الاندفاع نحو مزيد من التأزم السياسي والأمني أو إمكانية إعادة تصحيح ما هدّمه فيها دونالد ترامب طيلة السنوات الأربع الماضية.
والتي كان بئس ختامها في نكرانه نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وتحريضه على اقتحام مبنى الكونغرس.إلى أين تتجه الأحداث الآن في أمريكا هو السؤال الذي يشغل العالم كلّه، والذي ترتبط الإجابة عليه في الحاضر بما سيقرره ترامب من مصير لنفسه.
لكن بغض النظر عن تداعيات الحاضر، فإنّ مستقبل أمريكا ووحدة مجتمعها ودورها العالمي هي قضايا مرهونة الآن بالوقفة الأمريكية مع النفس على المستويين الشعبي والسياسي. فحجم الانقسامات في المجتمع هو أكبر من مسألة خلاف بين حزبين أو على من يكون الرئيس. فهي انقسامات شاملة لمقومات الأمة بكل أبعادها الثقافية والعرقية والدينية.
إنَّ أمريكا ذات الأصول الأوروبية البيضاء البروتستانية تعيش حالياً مزيجاً من تباينات وخلافات بسمات دينية وثقافية بحقّ المهاجرين الجدد عموماً، وفي طليعتهم القادمون من أمريكا اللاتينية، وضدّ بعض العرب والمسلمين.
إضافةً إلى مشاعر عنصرية كامنة لعقودٍ طويلة ضدّ الأمريكيين الأفارقة ذوي البشرة السوداء. وهذه الحالات من التمايز والتمييز على أساس لون أو دين أو ثقافة هي التي تهدّد وحدة أي مجتمع وتعطّل أي ممارسة ديمقراطية سليمة فيه.
فكيف إذا ما أضيف إلى هذا الواقع برنامج اليمين المحافظ الذي كان عليه ترامب في السنوات الماضية، إضافةً إلى الانقسام السياسي التقليدي بين «ديمقراطيين» و«جمهوريين» وما في كلِّ معسكر من برامج صحّية واجتماعية واقتصادية مختلفة، وتأثيرات مهمّة لشركات كبرى ومصالح ونفوذ «قوى الضغط» الفاعلة بالحياة السياسية الأمريكية!!
فأمريكا تأسّست كمجتمع على ما يُعرف اختصاراً بأحرف: WASP والتي تعني باللغة الإنجليزية «الرجال البيض الأنجلوسكسون البروتستانت». والدستور الأمريكي الذي جرى إعداده منذ حوالي 233 سنة، كان معنياً به أولاً وأخيراً هؤلاء المهاجرون القادمون من أوروبا، والذين مارسوا العبودية بأعنف أشكالها ضدّ الإنسان الأسود البشرة المستورد من أفريقيا، إلى حين تحريره قانونياً من العبودية على أيدي الرئيس إبراهم لنكولن، بعد حربٍ أهلية طاحنة مع الولايات الجنوبية التي رفضت إلغاء العبودية.
طبعاً أمريكا الحديثة هي غير ذلك تماماً، فالهجرة الكبيرة المتزايدة إلى الولايات المتحدة، في العقود الخمسة الماضية، من مختلف بقاع العالم، وبشكلٍ خاص من أمريكا اللاتينية، بدأت تُغيّر معالم المجتمع ثقافياً ودينياً واجتماعياً وسياسياً، وقد احتضن «الحزب الديمقراطي» هذه الفئات الجديدة.
بينما سار «الحزب الجمهوري» باتّجاهٍ محافظ ولّد فيما بعد ظاهرة «حزب الشاي»، التي أصبحت قوّةً مؤثرة داخل تيار «الجمهوريين»، في مقابل نموّ وتصاعد «التيّار اليساري الليبرالي» وسط «الحزب الديمقراطي»، والذي عبّر عنه في الحملات الانتخابات الماضية، المرشّح بيرني ساندرز.
محنٌ كثيرة مرّت على الأمريكيين منذ نجاح ثورة استقلالهم عن التاج البريطاني، في الرابع من يوليو بالعام 1776، بقيادة جورج واشنطن وبدعمٍ من جيش فرنسي قاده الجنرال لافاييت. التاج البريطاني لم يعترف بالاستقلال إلاّ بعد 7 سنوات (في العام 1783)، ثمّ حصلت معارك عسكرية بين الإنجليز والأمريكيين في مطلع القرن التاسع عشر (1812 – 1814) بسبب تدخّل الجيش الأمريكي في المستعمرات البريطانية في كندا، وممّا أدّى إلى احتلال قوّة عسكرية بريطانية للعاصمة واشنطن وحرق المقرّ الرئاسي (البيت الأبيض) ومبنى الكونغرس.
وربّما أكبر محنة عاشتها التجربة الأمريكية، منذ بدايتها قبل حوالي قرنين ونصف قرنٍ من الزمن، هي محنة الحرب الأهلية بين العامين 1861 و1865، حيث حارب فيها النظام الاتّحادي بقيادة إبراهام لنكولن (الجمهوري) الانفصاليين في إحدى عشرة ولاية جنوبية كانت تعترض على قرارات واشنطن بإنهاء العبودية وتجارة الرقيق،.
إضافةً طبعاً لمصالح اقتصادية رأتها الولايات الجنوبية من خلال تحقيق الانفصال. وقد سقط ضحية الحرب الأهلية حوالي 700 ألف جندي من الطرفين الشمالي والجنوبي إضافةً إلى أعدادٍ كبيرة من المدنيين.
ثمّ عاشت أمريكا محنةً أخرى في حقبة الستّينات من القرن الماضي حينما جرى اغتيال الرئيس جون كينيدي، وفي عامٍ لاحق (1968) جرى اغتيال شقيقه المرشّح للرئاسة روبرت كينيدي وزعيم الحقوق المدنية القس مارتن لوثر كينغ، وفي مناخٍ متأزّم داخل المجتمع بسبب العنصرية ضدّ الأفارقة ونتيجة الحرب الفاشلة في فيتنام.
ثمّ في حقبة السبعينات، أدّت فضيحة «ووترغيت» التي نتجت عن تجسس الحزب الجمهوري على مقر الحزب الديمقراطي إلى استقالة الرئيس ريتشارد نيكسون، وبعد أزمة سياسية كبيرة عاشتها واشنطن، وانعكس ذلك سلباً على «الجمهوريين» في انتخابات العام 1976 حيث فاز المرشح الديمقراطي جيمي كارتر.
أمريكا الآن تمرّ بمحنة جديدة فيها مزيج من رواسب الماضي ومن المخاوف على المستقبل ومن سوء إدارة الحاضر، وتحتاج لوقفة مع نفسها لمراجعة ما ساد من سياسات في ظلّ إدارة ترامب أوصلتها إلى منعطفٍ خطير يهدد أمنها ووحدتها.
* مدير «مركز الحوار العربي» في واشنطن/ عن “البيان” الإماراتية