هل الانتخابات هدفاً ام وسيلة لبلوغ هدف؟
هل الهدف استعدادة الوحدة الفلسطينية ام الامعان بشرذمتها؟
بقلم:د احمد قطامش
ليس صعبا ان تتوافق مختلف القوى السياسية والشعبية الفلسطينية على ان الانتخابات وسيلة وليست هدفا بحد ذاته، دون نفي وجود اصوات ليبرالية ليس لها وزن وطني مبهورة بالانتخابات بحد ذاتها.
اذكر مرة انني صادفت في احدى السفارات الصديقة موظفاً كبيراً لسفارة اخرى دعاني للقاء سفير بلاده. سالته ما الذي يجمعني بكم اجاب : الديمقراطية وحقكم في الانتخاب . قلت له : اولويتي استقلال شعبي . انظر ما فعلت حليفتكم في العراق تحت دعوى الديمقراطية والانتخاب …. اعتذر عن قبول الدعوة .
ليس ثمة لوحة مطلقة ، لون واحد فعلى الدوام هناك ا+ب وما بينهما بغض النظر عن حجم وفعالية أ او ب وما بينهما ، فهذا من طبائع الاشياء . وليس ثمة مصلحة واحدة لمركبات طبقية – ثقافية متعددة ، بل مصالح ، وهذا من طبائع الامور ايضا ، ولكن الذكاء السياسي يوجب البحث عن قواسم مشتركة من جهة والتعايش والتخالف حول ما عدا ذلك، وهذا كان جذر الديمقراطية الغربية في البدايات لتفادي الصراع بين مختلف اجنحة البرجوازية والطبقات الاجتماعية ، ومن هناك جاء التعبير الليبرالية منذ قرن ويزيد ( الديمقراطية هي التنازعات والتسويات ). الفلسطيني لا يملك ترف تغليب الافتراقات الى حد اشعال فتيل الصراع .
ولطالما ان الجغرافيا واحدة وتحتضن ديموغرافيا واحدة ، والمستقبل يقوم على قاعدة الجغرافيا والديموغرافية الواحدة ، فلا مهرب من ادارة التناقضات الداخلية على هذه القاعدة ، وهذا يتطلب اول ما يتطلب الاعتراف بالتناقضات اما اي بُعد انكاري لها فهو لا يلغيها، وفي الوقت نفسه ادارتها بحصافة وبشكل حضاري ضمن طابعها غير التناحري .
صحيح ان اينشتاين كتب ( ان السياسة لا تتعارض مع الغباء ) غير ان للغباء اثمان تزيد عن احوالنا تدهورا ، وهذا يتطلب الاخذ بنصيحة اينشتاين ايضا ( الجنون هو ان تتبع نفس الطريق وتتوقع نتائج مغايرة ) ، وهذا يستوجب الناي عن الصراع والاقصاء في آن .
لفتني مرة ما كتبه صحافي اجنبي عن دورة المجلس الوطني في الجزائر قبل زمن ( ان الفلسطيني يعرف كل المصطلحات السياسية ) فالتجربة الفلسطينية وان كانت في بلد صغيرولم يبلغ قاربها شطئان التحرير، فهي غنية بل غنية جدا الشي الذي عبر عنه وزير الدفاع الفيتنامي الاسبق ( جياب ) ورئيس مجلس الشعب لاحقا ، بالقول ان تجربتكم معقدة ، ففي فيتنام كانت اللوحة واضحة ثورة شعب ضد استعمار واقطاع محلي ، اما انتم فعوامل عديدة تمارس تاثيرها عليكم ).
وهذا يستدعي لزوما قراءة اللوحة الداخلية والعربية والاقليمية والدولية وحركتها ومعسكر الاعدااء ومعسكر الاصدقاء والتحولات في الخارطة السياسية الفلسطينية ، عوامل القوه وعوامل الضعف وصولا الى ادراك ان المسيرة الفلسطينية تمر في مرحلة الدفاع الاستراتيجي لا الهجوم الاستراتيجي “التعبير لكاسترو”
ومن الامتحانات الصعبة في السياسة اختلال ميزان القوى ، هذا الاختلال الذي يضغط لتقديم تنازلات في المبادىء والبرامج والاهداف، او التخلي عنها لقاء تطلعات اقل او مجرد فتات . والبراغماتية تتموضع هنا في احدى اركانها . ولو كانت موازين القوى مختلة ايجابا لما تطلب الامر التنازل عن اي من المبادىء والبرامج والاهداف ، اي لامكن التشبث بالموقف الايديولوجي لا الذهاب للبراغماتي .
وان الاعلام (تسيطر اربع وكالات اعلام غربية على 95% من الخبر العالمي ) والمنظرين الراسماليين والتعليم الاكاديمي ( للصدفة انني احمل درجة الدكتوراة في العلوم السياسية ) قد اشبع الناس تعريفا بان السياسة ( فن الممكن ) بما يفرش خلفيات للبراغماتي بان عليه ان يتنازل ويتنازل ويتنازل طالما ان العدو في موقع الاقوى والمنتصر .
قرأت في الصحافة في السنوات الاولى في سبعينيات القرن الماضي ، وكنت حينذاك في السجن ، ان وزير جيش الاحتلال ديان زار بلدية البيرة ، فسأله رئيس البلدية عبد الجواد صالح (بأي حق تصادرون اراضي مدينة البيرة المجاورة لمطار قلنديا ، رد الجنرال ( انت مثقف فهذا حق القوة )
ولكن هذا التعريف يحتاج لتدقيق . فالسياسة الثورية التي غيرت العالم في بلدان عديدة انما بدأت بحلم ( الظروف هي دائما مجافية ) غيفارا وإلا لماذا التغيير اصلاً وجمهرة التغيير انما تصنع انتصاراتها التراكمية رغم اختلال ميزان القوى الى ان تبلغ الانتصار بعد زمن قد يطول وقد يقصر ، وما علينا سوى تذكر الثورات في جنوب افريقيا والجزائر وفيتنام ومن قبلهما الثورة الفرنسية والثورة الامريكية …. ومن هنا استخلص لينين ( ان السياسة هي الصراع القومي والطبقي ) الى ان ينجز التغيير ، الذي يشترط حسب منظوره الثبات على المبدأ والبرنامج والاهداف و(لا ينبغي ان ينتهك التاكتيك الاستراتيجية ولا ان تنتهك السياسة الايديولوجيا ) د. حبش .
قد يصاب الموقف الصائب بالعزلة ولكنه لا يسقط . فرئيس الوزراء البريطاني تشيرشل في الحرب العالمية الثانية ، ومن مخبأه تحت الارض حيث كان ينام خمس دقائق ويصحو ساعة ، اقنع الحكومة التي مالت لشروط المانيا النازية ، وتحت القصف الرهيب ان تخوض المعركة (لان الهزيمة في الحرب اقل ضرراً من الخضوع ) حسب تعبيره.
الكل الفلسطيني وفي مقدمته رئيس م.ت.ف قال لا لصفقة القرن فتوحدت الساحة حول هذا الموقف ، وتوارت الاصوات البراغماتية في الغرف المغلقة التي استطابت هذه الصفقة التي تعطي اقل من القليل وتأخذ الكثير . ومن تسنى له الاطلاع على وثائق فيتنامية يلحظ ان بعض القوى في الفيتكونغ ( الجبهة الوطنية ) كانت اقل تصلباً من الوفد الفيتنامي الذي فاوض كيسنجر في باريس، اما هوتشي مين ورفاقه بعد الانتصار بتحرير الشمال عقب معركة بيان ديان فو 1954، فلم يتزحزوا عن هدفهم بتحرير الجنوب ولم يعترفوا بحكومة الجنوب والاستعمار الامريكي الذي حل محل الاستعمار الفرنسي المهزوم الى ان حزم السفير الامريكي حقائبه مدحوراً عام 1975. ( فالتاكتيك لم ينتهك الاستراتيجية).
ولا مدعاة للعودة لاوسلو وما افضى اليه ، ولكن من أهم مركباته انتخاب (مجلس اداري محدود) اي تشريعي باللغة الفلسطينية ، واول انتخاب له كان عام 1996حيث انقسمت الخارطة الفلسطينية بين مؤيد ومعارض وفي انتخابات 2006 انخرطت الغالبية الساحقة فيها ونشأ تنازع انفلتت ضوابطه الى ان مست بالمحرمات وتعاظم الى ان انقسمت السلطة الى سلطتين في الضفة الفلسطينية وقطاع غزة بما صاحب ذلك من اوجاع وتعبئة قصويه ترى اللحظة ولا ترى المستقبل وقاعدة الجغرافيا والديموغرافية الواحدة .
وبصرف النظر عن التفاصيل، اذ لايفيدنا نكىء الجراح الا لاشتقاق الدروس ( التاريخ يعلمنا استخلاص الدروس ) كسينجر ، فقد صاحب الصيرورة الفلسطينية في العقد والنصف الاخيرين الكثير من النزف . ذلك ان الذي وقع على اوسلو اختار المفاوضات كطريق اما الذي ناهض اوسلو فالتحق بالانتخابات كرافض لاوسلو واتسعت الفجوة وحصل ما حصل .
ماذا عن اليوم ؟
لا توافقات تركيا ولا حوارات القاهرة نقلت الخارطة السياسية الفلسطينية لخندق سياسي واحد. فالذي وقع على اوسلو واستحقاقاتها والذي ناهض اوسلو واستحقاقاتها مستمران في خيارهما دون قدرة على تذليل الافتراقات السياسية الجوهرية ، ولا اشير هنا للقضايا الاجرائية والاجتماعية … وفي الطريق مشروع امريكي (مسار تفاوضي فلسطيني – اسرائيلي ) تعلنها أجندة الخارجية الامريكية وتؤيدها العديد من العواصم جهاراً نهارا على ارضية الاعتراف و”التنسيق ” وكل الموضوعات التي ادت الى الانقسام منذ اوسلو 1993. وهناك جولة حوار فلسطيني – فلسطيني يومي 16،17 في القاهرة ، ولئلا يتحول الحب الى كراهية والوئام الى اتهام ، هناك خيارات مجرد خيارات نظرية :
1) ضرورة تكريس ما يكفي من وقت وجهد في لقاء 16 و 17 اذار الجاري ، واعتبار هذا الاجتماع في حالة انعقاد دائم للوصول بحق وحقيق لرؤيا سياسية لا تسمح بانقسام الموقف لاحقا . أو
2) اعتماد مبدأ الاغلبية فالذي يفوز بالاغلبية ( وطني وتشريعي ) يصبح صاحب القرار والاقلية تتقبل ذلك على ان يكفل حقها بالمعارضة ( حق التعبير والتحرك الشعبي دون اللجوء للعنف والاعتقال ) وبالتالي التعايش مع الخلاف …اذ علينا ان ندخل مفردة تعايش في تفكيرنا السياسي .
3) عدم الذهاب للانتخابات والاكتفاء بمرجعية قيادية جماعية تشارك فيها الفصائل وشخصيات شعبيه تأخذ قراراتها بالاغلبية مع حق الاقلية بالاعتراض …
اما الذهاب للانتخابات سواء بقائمة مشتركة او غير مشتركة وتأجيل القضايا الخلافية فسوف تجري الانتخابات ، وبصرف النظر عن اية تحديات فنية او غير فنية ، ففي نهاية المطاف سوف تذهب قوى وازنة للمسار التفاوضي فيما تصطف قوى وازنة اخرى في خندق المواجة ، وتنقسم الساحة من جديد والعناق يتحول لافتراق يلهب ذلك ازمات الساحة العديدة التي تنخر عظم الشعب الفلسطيني وكل قواه وهي تضغط وما اسهل تفريغها في اتجاهات خاطئة.
وحسب مقاربتي فانتخابات التشريعي عام 2006 ، افضىت لاسباب عديدة لانقسام ودرجة من الصراع ، ويجوز الخشية من تكرار ذلك . والسلطة والحكومة بقطع النظر عن الشخوص ، مكشوفتان امنياً وماليا وبناء على مبادىء اوسلو عليهما التزامات سياسية وامنية .
وللالتفاف على هذه الالتزامات ، ثمة مقترح تكرر مراراً منذ سنوات يقوم على حصر دور السلطة بالشان الحياتي – الاداري أما الشأن السياسي فيناط ب م .ت .ف ومجلسها الوطني بعد اعادة تشكيله ( انتخابا وتوافقا )
ويحظى المجلس الوطني اليوم باهمية مضاعفة . فمن جهة هو مرجعية شاملة للشعب في الداخل والخارج على حد سواء وليس محصوراً بالضفة وغزة كما حال التشريعي .
ومعروف ان التجمعات الفلسطينية تتوزع على النحو التالي ( الضفة 3.1 مليون وغزة 2.1 مليون و1.6 في 48 ونحو 6.7 مليون في الشتات ) اي ان الضفة وغزة اقل من 40% من قوام الشعب .
كما ان حصر مهام السلطة وحكومتها بالشان الحياتي – الاداري لا يشتت جهدها بما يساعدها على اداء افضل في التصدي للاعباء التنموية والتشغيلية والصحية والتعليمية وو … وما اكثر هموم الشعب الفلسطيني في اراضي 67، ناهيكم عن تحريرها نسبيا من الصراعات السياسية الفصائلية والفئوية التي عرفناها على امتداد عقدين ويزيد . فهي تقوم على الكفاءة لا على الولاء السياسي وتخضع ل م.ت. ف وقراراتها على غرار مدن في غير دولة ودولة .
ومثل هذا عرفته التجربة الكورية في مرحلة الثورة في المناطق الحمراء وكذا يوغسلافيا والصين وحاليا الحكومات المحليه في أمريكا وهي تقترب من المليون ..
اما ان تكون م. ت.ف ومجلسها الوطني مركز الثقل والمنوط بها اعادة بناء المشروع الوطني ، فهذا يستحق وقفة اخرى . اخذين بالحسبان ان لا حل سياسي قريب فكل المساعي منذ أوسلو وقبلئذ هي إدارة ازمه لا حل ازمه كما جاء في عنوان احد كتبي قبل عقدين واكثر .