الضابط الذي أعدم المسعفين في رفح يظهر مرتزقاً في الكونغو بعد ثلاثة أيام من تسريحه

30 أبريل 2025آخر تحديث :
الضابط الذي أعدم المسعفين في رفح يظهر مرتزقاً في الكونغو بعد ثلاثة أيام من تسريحه

قبل شهر واحد فقط، وفي واحدة من أكثر الجرائم دموية بحق العمل الإنساني منذ عقود، ارتكب قائد عسكري إسرائيلي مذبحة مروعة في قطاع غزة، راح ضحيتها خمسة عشر من عمال الإغاثة الإنسانية. هذا القائد، الذي تمكنت مؤسسة “بال كوميشن” من كشف هويته، هو الرائد نيكولاي (نيكو) أشوروف، من أصل روسي، وكان يشغل منصب نائب قائد كتيبة الاستطلاع التابعة للواء غولاني. وفي مفارقة مأساوية، وبعد مرور ثلاثة أيام فقط على تسريحه من الجيش، غادر أشوروف إلى الكونغو ليعمل كمرتزق ضمن شركة أمنية خاصة.

تعود تفاصيل الجريمة إلى الساعات الأولى من يوم الثالث والعشرين من مارس 2025، حين كانت سيارة إسعاف تابعة للهلال الأحمر الفلسطيني في طريقها لإسعاف ضحايا قصف إسرائيلي سابق على مدينة رفح في حي الحشاشين. وأثناء مرورها في منطقة البركسات غربي المدينة، نصب جنود من وحدة استطلاع غولاني كمينًا قاتلًا، أطلقوا خلاله النيران بكثافة على سيارات الإسعاف، ما أدى إلى استشهاد اثنين من المسعفين واعتقال ثالث. وفي وقت لاحق، تحركت قافلة من سيارات الإسعاف والدفاع المدني إلى الموقع ذاته لتتعرض لنفس المصير، حيث استُشهد ثمانية من كوادر الهلال الأحمر وخمسة من الدفاع المدني، فيما اعتُقل أحد أفراد الدفاع المدني ولا يزال مكان احتجازه مجهولًا. وبعد فترة قصيرة، أُعدم موظف تابع للأمم المتحدة كان قد حضر إلى المكان بعد سماعه أصوات إطلاق النار أثناء محاولته تقديم المساعدة.

لم تكن المجزرة ارتجالية. المسودة القانونية التي اطلعت عليها «القدس»، والتي أعدها خبراء قانونيون من مؤسسة “بال كوميشن” في نيويورك، أثبتت أن الهجوم تم بأمر مباشر من نيكولاي أشوروف، الذي تولى قيادة القوة المنفذة على الأرض. تضمنت الأدلة التي جمعتها المسودة سجلات عسكرية، ونشاطات على وسائل التواصل الاجتماعي، وتفاعلات متعددة مع معارف وجنود على صلة بالضابط، وجميعها تثبت أن أشوروف هو الذي أمر جنوده بفتح النار دون تمييز.

تصريحات القادة العسكريين الإسرائيليين في الأيام التي سبقت المجزرة كشفت عن العقلية التي قادت إلى هذه الجريمة. في تسجيل مصور، يظهر قائد الكتيبة، المقدم دافيد كوهين، وهو يوجه أوامر لجنوده قائلاً قبل دخولهم لرفح: «كل من نصادفه هو عدو. إذا رأيتم أي شخص، اقتلوه فورًا، لا تترددوا». عقيدة القتل الشامل هذه أكدها أيضًا العقيد طال إلكوبي، قائد اللواء 14، التي عملت الكتيبة تحت ظلها، حين صرح للصحافة العبرية بأنهم «يمطرون المنطقة بنيران كثيفة قبل كل هجوم، ليتبقى فقط قتل من يبقى حيًا».

تعليقًا على هذه التصريحات، وصف البروفيسور لويجي دانييلي، أستاذ قانون النزاعات المسلحة بجامعة نوتنغهام في بريطانيا، لجريدة القدس أن ما يحدث هو “انهيار كامل لمبدأ التمييز بين المدنيين والمقاتلين”، مؤكدًا أن “كل فلسطيني في غزة أصبح هدفًا مشروعًا للقتل بقرار من قائد ميداني”.

مصادر إسرائيلية كشفت أنه بعد يوم واحد من كشف مؤسسة “بال كوميشن” لهوية الضابط، أرسل المقدم كوهين رسالة داخلية إلى قواته أكد فيها أن العملية “لا يوجد فيها فشل أخلاقي، بل العكس تمامًا”، وأن «نيكو»، أي نيكولاي أشوروف، كان نائب قائد الكتيبة خلال العملية، مشيدًا به باعتباره «ضابطًا متميزًا ومبدئيًا» ومؤكدًا أن «قيادة الوحدة تدعم بكل قوة أفعال كل مقاتل شارك في المهمة».

يرى البروفيسور دانييلي أن تصريحات قائد الكتيبة الإسرائيلي ليست حالة فردية، بل هي انعكاس واضح لـ “إجرام منهجي” و”تجريد كامل من الإنسانية”. في تفسيره، أشار إلى أن هذا التجريد لا يقتصر على السلوك القتالي، بل يمتد ليشمل أيضًا الطريقة التي يعيد بها هؤلاء القادة تفسير قوانين الحرب لتبرير جرائمهم. “هؤلاء المقاتلون مقتنعون بأن قتل المدنيين الفلسطينيين — بمن فيهم الأطفال — لا يعد فقط عملًا مشروعًا وأخلاقيًا، بل ينظر إليه كعمل بطولة”، يقول دانييلي. وأضاف أن عبارة القائد “لا يوجد فشل أخلاقي، بل العكس تمامًا” تختصر بوضوح هذا النهج.

ويتابع دانييلي: “الضباط الإسرائيليون يشعرون بأن لديهم الحق في تجاهل أي قيد قانوني، معتقدين أن هناك أخلاقًا متفوقة أو امتيازًا خاصًا يبرر أفعالهم. هذه هي الحقيقة الجوهرية: هذيان إبادة جماعية. هذيان سمحت به سنوات طويلة من التبييض في النقاشات الغربية، حيث جرى التلاعب بلا حدود بمفاهيم مثل ‘الدروع البشرية’ و’الأضرار الجانبية’ لإخفاء واقع القتل الجماعي الواضح والروتيني، الذي يتم بطريقة عشوائية ومعلنة — حتى عندما لا تكون النية هي الإبادة المباشرة، فإن اليقين شبه المطلق بالنتيجة يرقى قانونيًا إلى القصد الجنائي في ارتكاب إبادة، وفقًا لاجتهادات المحكمة الجنائية الدولية”.

وفقًا لتحقيق داخلي أجراه الجيشى أطلعت عليه صحيفة «هآرتس»، فإن القائد المسؤول عن التخطيط للهجوم كان نائب قائد الكتيبة، وهو المنصب الذي كان يشغله أشوروف حينها. ورغم أن نتائج التحقيق للجيش الإسرائيلي نفسه أكدت عدم وجود أي نشاط مشبوه في المنطقة، أصدر أشوروف أوامره بإطلاق النار على سيارات الإسعاف بمجرد مرورها.

المكالمة مع الجزار

وهذا ما فعلناه. أجريت الاتصال الهاتفي، تحدث أشوروف بحرية عن طبيعة عمله. كشف أنه واحد من ثلاثة مديرين في شركة “فورتريس”، التي تشرف على تدريب القوات الخاصة والكتائب النظامية في الكونغو. وأشار إلى أن قائد الشركة هو نير ياتوم، الضابط السابق في وحدة يامام الخاصة، وابن الجنرال ورئيس جهاز الموساد الأسبق، داني ياتوم.

عرضت الشركة عليّ راتبًا شهريًا يبلغ 27 ألف شيكل إسرائيلي جديد، وأكد أشوروف أنه سيكون موجودًا في الكونغو معي للإشراف المباشر على العمليات. المشاريع تشمل ما يُعرف بـ”مشروع الكوماندوز” و”مشروع الكتائب”، وهما جزء من برنامج تدريب القوات الكونغولية على التصدي لتمرد حركة إم-23.

ف

ي سياق التحقيق، سعينا لدفع نيكولاي أشوروف للاعتراف بمسؤوليته عن المذبحة التي وقعت أثناء قيادته للقوة في رفح. خلال المحادثة، نجحنا بالفعل في انتزاع هذا الإقرار. وعندما لاحظ أن لدينا معلومات عن دوره، سألنا باندهاش: “كيف عرفتم أنه أنا؟”

وبعد أن قدمنا له ذريعة مقنعة، أطلق اعترافًا حاسمًا:

“كل شيء مضى وانتهى. كل شيء للخير. أخي، الجيش ليس مسيرتي المهنية — عدت فقط لأنهم طلبوا مني. أنا أعمل في الأمن بأفريقيا هنا وهناك. كل شيء سيكون على ما يرام”. هذه الكلمات لم تكن مجرد تبرير شخصي، بل فتحت نافذة على شبكة أوسع من النشاطات الأمنية الإسرائيلية في أفريقيا.

بحسب تقرير لصحيفة إسرائيل هيوم، فإن شركة “فورتريس – بعثات دولية المحدودة، التي تأكد لنا أن أشوروف يعمل كمدير فيها، تعد إحدى أبرز الشركات الأمنية الإسرائيلية النشطة حاليًا في القارة. و علّق الرئيس الأسبق لجهاز الموساد على ذلك للصحيفة: “في رأيي، نير لن يرغب في الحديث معكم، لأن هذا النوع من الأنشطة يفضل أن يظل بعيدًا عن الأضواء”. وجود الخبرات العسكرية الإسرائيلية في أفريقيا ليس أمرًا جديدًا، لكن حجمه وكثافته تصاعدا بشكل غير مسبوق في السنوات الأخيرة. وبحسب ما نشرته منصة Africa Report، فقد لعبت الشركات الإسرائيلية دورًا رئيسيًا في تدريب قوات الجيش الكونغولي لمواجهة تمرد حركة M-23 المسلحة. الرئيس فيليكس تشيسيكيدي، الذي تولى السلطة عام 2019، تعمّق في هذا التوجه، مستعينًا بالشركات الإسرائيلية الخاصة ليس فقط لتأمين الشخصيات العليا، بل أيضًا لتدريب الحرس الجمهوري — ما يتماشى مع وصف أشوروف لمشروع “الكوماندوز” الذي تحدث عنه خلال المحادثة.

هذه الاستعانة المتزايدة بمرتزقة وخبراء عسكريين إسرائيليين جاءت بتكلفة مالية باهظة، حيث أشارت تقارير إلى أن مئات ملايين الدولارات استُنزفت من خزينة الدولة لتمويل هذه العقود السرية. الأمر لم يتوقف عند حدود القلق؛ بل دفع السلطات المالية الكونغولية، ممثلة بوحدة التحقيقات المالية CENAREF، إلى فتح تحقيق رسمي العام الماضي في حجم وتأثير هذه الأنشطة على الاقتصاد الوطني.

لم يكن نيكولاي أشوروف سوى حلقة مكشوفة من منظومة متكاملة، حيث تتقاطع جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة مع مشاريع المرتزقة والهيمنة الأمنية في قلب أفريقيا. من شوارع رفح المدمرة إلى الغابات الاستوائية في الكونغو، يتنقل القتلة بلا محاسبة، حاملين معهم ثقافة الإفلات من العقاب، مغلفين بواجهات شركات خاصة، ومدعومين بهياكل سياسية وعسكرية عابرة للحدود. بينما يواصل العالم غض الطرف عن المجازر المرتكبة بحق المدنيين الفلسطينيين، تُزرع بذور الكارثة القادمة في أماكن أخرى من العالم المنسي، حيث تتكرر الأنماط ذاتها من العنف، والفساد، والانتهاكات. قضية نيكولاي أشوروف ليست استثناءً — بل هي القاعدة. وما لم يُكسر هذا الصمت الدولي المخزي، فإن “مذبحة رفح” ستظل تتكرر، بأسماء وعناوين مختلفة، ولكن بنفس الدم المسفوك بلا حساب.