بقلم: عيسى قراقع
استشهد الأسير الفلسطيني المريض والمسن سعدي الغرابلي 74 عاماً، سكان قطاع غزة، في سجون الاحتلال الاسرائيلي يوم 8/7/2020، ليرتفع عدد الشهداء الأسرى منذ عام 1967 الى 224 شهيداً يضاف إليهم المئات من الأسرى الذين توفوا بعد الإفراج عنهم بسبب الأمراض القاتلة التي حملوها من داخل السجون والمعسكرات.
في كل عام يفجع الشعب الفلسطيني باستشهاد أسير أو أكثر، مما يشير الى ان السجون الاسرائيلية أصبحت حاضنة للموت والقتل البطيء، فإما أن يموت الأسير قهراً أو مرضاً أو يموت تعذيباً وقمعاً، وفي كل الأحوال فإن الموت دائم الترصد بالأسرى، والسجان الإسرائيلي لم تعد مهمته ضبط السجن وادارة شؤون السجناء، وإنما قيادة أسباب الموت الى اكبر عدد من المعتقلين.
الشهداء الأسرى في السجون لم يعودوا مجرد إحصائيات ولا مجرد أرقام، خلال العشر سنوات الأخيرة استشهد 27 أسيراً فلسطينياً نصفهم إستشهد في آخر عامين، وهذا يعني أن أعداد الشهداء تتصاعد لنجد أنفسنا أمام مجزرة وجرائم حرب متواصلة ومستمرة دون حماية دولية تنقذهم من الوحشية الإسرائيلية ومشانق الاعدام التي تنتهك كل الأعراف الانسانية والاخلاقية.
الموت في سجون الاحتلال يقوده السجان والطبيب والمحقق والقاضي والشرطي والجندي والمؤسسة الحاكمة في اسرائيل، الموت للأسرى وللفلسطينيين هو نظام مقنن ومشرعن من قبل سلطات الإحتلال، له آليات وتقنيات قادرة على سلب الحياة من الأسرى وإزهاق أرواحهم، فالأسرى بالنسبة للاسرائيلين هم مشاريع موت مستهدفون، لأنهم يعشقون الحرية والحياة واستطاعوا ان يجعلوا للموت وللتضحية معنى، وهذا ما يقلق الاسرائيليون دائماً.
الشهيد العجوز سعدي الغرابلي رأى الموت لاكثر من 26 عاماً قضاها في السجن منذ أن اعتقلوه الى أن زجوه في مؤبدات السجن القاتمة وفي زنازين العزل الانفرادية، رأى الموت وهو يطل عليه من اتجاهات عديدة: من المضايقات والتشديدات اليومية، من حفلات القمع والاقتحامات الليلية، من الأمراض المميتة التي دبت في جسده، لا علاج ولا رعاية صحية، الطبيب الاسرائيلي يحمل القيود والهراوات وقنابل الغاز وليس الأدوية.
الشهيد الغرابلي رأى الموت قادماً نحوه سنة وراء سنة، صده أكثر من مرة بإرادة وعزيمة، فاوض الموت طويلاً، كلما اقترب الموت استدعى سعدي ذكرياته وأصدقائه الى زنزانته، حضر البيت والعائلة وصور الأولاد ونشيد الطلبة في المدارس فردت إليه العافية.
الشهيد سعدي الغرابلي رأى الموت يخطف المئات من زملائه الأسرى، رأى كيف سرق الموت ملامحهم ورحلوا في صمت وهم يحركون هواء الحرية على أصابعهم ويدقون بوابات الغياب.
رأى الشهيد الأسير سامي أبو دياك وهو يتحدى ذلك الموت الذي اقتحم أحشائه وقلبه واعضاء جسمه الداخلية، صمد سامي أكثر مما توقعه الموت، انتحر الموت عندما فجر نفسه في داخل جسم سامي جوف كتلةٍ سرطانية.
رأى الشهيد الأسير بسام السايح الذي فاوض الموت حتى اللحظة الاخيرة، وعندما هاجمه الموت تحول سامي الى حلم للحياة أيقظه منه الموت في هجمته القاتلة.
راى الشهيد الأسير قاسم أبو عكر يفاوض الموت في زنازين المسكوبية، الموت جاءه في هيئة شخص المحقق الذي استخدم كل الاساليب القمعية العنيفة، تعب الموت لأن القدس احتضنت قاسم في صلواتها السماوية.
رأى الشهيد الأسير فارس بارود يفاوض الموت على مدار 29 عاماً، وكلما اقترب الموت اشتعلت طائرة ورقية فوق السياج الفاصل على حدود غزة، احترق الموت وانهارت حدود الهاوية.
رأى الشهيد ميسرة ابو حمدية، عشرون عاماً والموت يدق على بابه في السجن، شاخ الموت، صرخ الموت، فاوض الموت سنوات طويلة وعندما اكتشف ان هذا التفاوض هو حوار السيف مع الرقبة كما قال غسان كنفاني ترك ميسرة جثته في السجن فقام الشبح من الجثة وخنق الموت، عاد ميسرة الى الخليل حراً واستراح تحت الدوالي واغتسل بماء التراب.
الأسير الشهيد سعدي الغرابلي رأى شخص الموت في تلك المعسكرات والأقبية المظلمة: الضرب والشبح والقرفصة والعزل والهزُ والحرمان من النوم والتجويع والتحرش الجنسي وغيرها من أساليب البطش والجريمة، عاش كل تفاصيل القنبلة الموقوته وتضاريس الموت وما زال على قيد الحياة الخالدة.
لا هدنة مع الموت، قال الشهيد الغرابلي، شخص الموت يساوم على لقمة الخبز مقابل الموت السياسي، يساوم على الحرية المنقوصة مقابل مشاريع الرفاهية، يساوم على الحياة الذليلة، حياة العبودية مقابل موت الهوية، دق سعدي بوابات الموت وارتفع فوق اقداره العالية.
ما هذا الموت الذي يهرب أمام الإرادات الجامحة؟ يخاف الموت من الجوع والاضرابات والانتفاضات والأرواح التي تضحي داخل السجون كي ينتبه المجتمع العالمي وترفرف الأجنحة، الأسرى يسكنون صرخاتهم ويعيدون ظلالهم للمكان وللأسماء حضورها في الحياة القادمة.
الاسرائيليون يخافون من الموت بعد الموت، لهذا يحتجزون جثامين الشهداء الاسرى في مقابر سرية، يعرفون ان الجسد يموت ولكن روح الأسير هي مشروع حرية لا تحده الأمكنة.
شخص الموت هو هذا المستوطن المتطرف الذي يتعثر بالأرض والشجر واللغة، يحرق ويقلع ويقتل ويخطف ويغرق في غربته وأمراضه المزمنة.
شخص الموت هو هذا البرلمان الاسرائيلي المتطرف الذي يشرع القوانين العنصرية: قانون الاطعام القسري، قانون التعذيب، قانون الاعدام، قانون اعتقال القاصرين، الاعتقالات الادارية التعسفية، ولازال قانون القومية يطارد الطفل والآذان وحق تقرير المصير والأغنية.
شخص الموت قتل سعدي الغرابلي في السجن بعد ان اكتشف ان الأسرى ينجبون أطفالا بتهريب النطف، يولدون تحت الشجر وتحت المطر ويولدون من الشظايا، يصيرون حجرا أو قنبلة.
على أثر استشهاد الأسير سعدي الغرابلي قدم شخص الموت تقريراً الى هيئة الأركان ومصلحة السجون في اسرائيل جاء فيه: الموت بحق الفلسطيني ليس موت، لم أر في حياتي كالأسرى الفلسطينيين، أرواحهم عنيدة ويعتبرون أن الموت لا يعني شيئاً بالنسبة لهم، ويرون أن الخنوع والهزيمة هو الموت بحد ذاته، لا وقت عندهم للموت فهم مشغولون بالحياة ويعرفون كيف يموتون.