بقلم: المحامي علي ابوهلال
منذ حزيران عام 1967 تواصل سلطات الاحتلال الإسرائيلي الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية ونهب ومصادرة وسرقة ما بداخلها وما فوقها من ثروات وكنوز ومعالم أثرية وطبيعية.
فقد سرقت قوات الاحتلال الإسرائيلي، فجر يوم الاثنين الموافق 20/7/2020 ، حجرا أثريا من بلدة تقوع جنوب شرق بيت لحم، جنوب الضفة الغربية، يعود تاريخه إلى الفترة البيزنطية، قبل نحو 1600 عام، ويبلغ وزنه نحو 7 أطنان وقطره نحو متر ونصف، وهذا الحجر هو “حوض التعميد” (يُسمى أيضا جُرن المعمودية، ويستخدم لتعميد المسيحيين). ويذكر “إن الحجر الأثري كان موجودا في خربة أثرية فيها كنيسة في تقوع، تقع في منطقة مصنفة (ج)، ونقلته بلدية البلدة إلى منزل مدير بلدية تقوع، تيسير أبو مفرح، الواقع في منطقة مصنفة (ب) قبل 20 عاماً بالبلدة، للحفاظ عليه، ومنع سلطات الاحتلال من سرقته والاستيلاء عليه.
ومن الجدير بالذكر أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي منذ احتلالها للأراضي الفلسطينية تواصل ممارسة سياسة ممنهجة لسرقة ونهب التراث الفلسطيني، الذي يعتبر جزءا من الهوية الثقافية لشعبنا الفلسطيني، وقام بتسليم ملف الآثار إلى ضابط آثار كانت مرجعيته ما يسمى الحاكم العسكري الإسرائيلي، حيث تأسست “إدارة” متخصصة بذلك، بغية السيطرة المطلقة على الآثار في فلسطين، حيث صدرت أوامر عسكرية إسرائيلية منحت هذا الحاكم صلاحيات واسعة، شملت مجموعة من القضايا، أهمها: منح التراخيص، والاتجار بالآثار، ونهبها، وصلاحيات شاملة على التنقيب، والمسح، والبحث عن الآثار. كما جرى الغاء نظام الحماية، وإبطال بنود القانون الخاصة بذلك.
وقد تعددت عمليات النهب وسرقة الآثار في فلسطين من قبل الاحتلال، وما زالت منتشرة في المناطق التي يسيطر عليها، من خلال البدء بأعمال نهب كبيرة، والترويج لتجارة الآثار، ومنح تصاريح أو رخص للاتجار بها، وانخراط رموز سياسية إسرائيلية في عمليات نهب الآثار والاتجار بها، وإجراء التنقيبات الاثرية غير الشرعية في الأراضي المحتلة، والسماح والمشاركة في تهريب الآثار إلى الخارج، وإخفاء أي بيانات تتعلق بالوضع الأثري في فلسطين.
وهي بذلك تحاول اختلاق رواية بديلة عن الرواية الحقيقية والتي تعكسها الآثار الموجودة على الأرض الفلسطينية، وتستخدم الآثار في تثبيت أفكار أيديولوجية تخدم الرواية المزيفة للاحتلال، والاستيطان، والاستيلاء على الأراضي، وإخفاء الأسماء العربية، وتحريف اسماء المواقع، وجدار الفصل العنصري، ومشروع الضم الأخير، وعمليات سرقة الآثار والاتجار بها.
وتشير الإحصاءات الرسمية الفلسطينية إلى نهب وتدمير آلاف المواقع الأثرية، حيث جرى سرقة ونقل مئات الآلاف من القطع الأثرية التي تم استخراجها بشكل غير قانوني من المواقع الأثرية، ومنحت رخصا للاتجار بالآثار، ما أسهم في ازدياد ظاهرة التهريب، وتناميها بشكل كبير جدا، وتشير التقديرات الرسمية الفلسطينية إلى مئات الآلاف من القطع الأثرية التي كانت تهرب سنويا ويتم تداولها في الأسواق المفتوحة للتجارة، وأخرى تبقى لدى سلطات الاحتلال.
إن سلطات الاحتلال الإسرائيلي لا تزال مستمرة بانتهاك صارخ للقانون الدولي، وذلك باستهدافها المباشر للتراث الثقافي الفلسطيني، من خلال عمليات تهريب الآثار، وسرقتها ما يحملها المسؤولية الدولية، فما جرى في بلدة تقوع يعتبر سرقة للتراث الفلسطيني باستخدام القوة ووسائل غير مشروعة وهمجية، ويعتبر تحدٍ لكل المؤسسات الدولية العاملة بالتراث وانتهاك لكافة المواثيق والمعاهدات الدولية”.
وتوفر اتفاقات اليونسكو وصكوكها إطارًا لضبط تراث فلسطين الثقافي وحمايته، وفرصةً للاستفادة من التعاون الدولي لحماية التراث الثقافي، استنادًا إلى القانون الدولي. فبتقييد دور السلطة القائمة بالاحتلال تقييدًا صارمًا فيما يتعلق باستخراج الممتلكات الثقافية واستخدامها في الأراضي المحتلة، فإن اتفاقية لاهاي لعام 1954، وغيرها من الصكوك، تحمي الحقوق الفلسطينية وخاصة الممتلكات الثقافية والتراثية إبان النزاعات المسلحة.
وبعد انضمام فلسطين عام 2011 لعضوية اليونسكو واكتساب القدرة على الانضمام إلى معاهدات أخرى، غدت فلسطين اليوم في موقفٍ أفضل من أي وقت مضى للسعي لاسترداد ممتلكاتها الثقافية المستخرجة أو المتداولة بطرق غير مشروعة، وإدراج مواقع وطنية على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، وقد غدت فلسطين أيضًا في موقف أفضل لمتابعة إمكانيات التقاضي واتخاذ إجراءات قانونية أخرى في الولايات القضائية المحلية الأجنبية لاسترداد القطع الأثرية وجلب المسؤولين الإسرائيليين المتورطين في التنقيبات غير القانونية إلى العدالة.
وعلى فلسطين أن تُظهر التزامها بإطار حماية اليونسكو من خلال اعتماد التدابير القانونية والإدارية اللازمة في قانونها الوطني والسعي لإنفاذها قدر المستطاع، على الرغم من تواصل إسرائيل فرضَ سيطرة رئيسية على الأرض الفلسطينية.
إن توفير الحماية القانونية الكافية للتراث الثقافي على المستوى الوطني سوف يدعم جهود فلسطين لاستعادة حيازة ممتلكاتها الثقافية المسروقة ويعزز جهودها الرامية لاستعادة السيطرة على أراضيها. وحالما يتم التوافق على مشاريع القوانين الفلسطينية ينبغي عليها التشاور مع أصحاب المصلحة كافة، بما في ذلك القطاع الخاص والمجتمع المدني، وبالإضافة إلى ذلك، ينبغي إجراء جرد فلسطيني موثَّق للقطع الأثرية المنقولة ومواقع التنقيب.
وينبغي أن تنشَطَ منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية أكثر في دعوة الحكومة الفلسطينية إلى اتخاذ التدابير المناسبة لحماية التراث الثقافي في فلسطين بإقرار مشاريع القوانين وتعزيز المؤسسات الوطنية المكلَّفة بحماية التراث الثقافي في فلسطين. وبوسع منظمات المجتمع المدني أيضًا أن تلعب دورًا مهمًا في زيادة الوعي محليًا ودوليًا لحماية الآثار والممتلكات التراثية والتاريخية.
ولن تتسنى حماية التراث الثقافي والطبيعي في فلسطين بفاعلية إلا بإعادة ربط الشعب الفلسطيني بهذا التراث. وعليها الاستفادة السليمة من إطار اليونسكو، على الصعيدين الوطني والدولي، لتمكين فلسطين من السيطرة على تراثها الثقافي من خلال إدارته وتنظيمه بموجب قوانينها الوطنية وفقًا للمعايير الدولية.
ان جهود دولة فلسطين على الصعيد المحلي والتشريعي لحماية التراث الفلسطيني وممتلكاتها وكنوزها الثقافية والدينية والطبيعية، ينبغي أن تتواصل وتستمر، كما أن جهودها على الصعيد الدولي ينبغي أن تتضاعف بما في ذلك متابعة مساءلة إسرائيل ” القوة القائمة بالاحتلال” لدى المنظمات الدولية والقضاء الجنائي الدولي وخاصة لدى المحكمة الجنائية الدولية لحماية حقوقها وممتلكاتها التراثية التي تواصل حكومة الاحتلال سرقتها والاستيلاء عليها، بهدف استعادتها ومحاكمة مجرمي الاحتلال الذين اغتصبوها واستولوا عليها بالقوة الهمجية أحياناً وبالخداع والتزوير أحيانا أخرى.
*محام ومحاضر جامعي في القانون الدولي.