بقلم: باسل أبو سعيد*
مع انطلاق الثورة المعلوماتية والتقدم التكنولوجي الرقمي في تسعينيات القرن الماضي، ظهرت القنوات الاعلامية الفضائية، وبرز تأثيرها في صناعة الرأي العام ، الأمر الذي جعل قناة “الجزيرة” الإعلامية تستحوذ على مساحة كبيرة من هذا الفضاء المفتوح، وتمارس دوراً هاماً في تقديم “إسرائيل” لأول مرة للجمهور العربي عام 1996 من خلال استضافة بعض الصحفيين والباحثين والمسؤولين الإسرائيليين في سابقة تاريخية بارزة، وفي الوقت الذي عجزت فيه الماكنة الإعلامية الاسرائيلية منذ تأسيس “القسم العربي” لإذاعة اسرائيل (في الستينات) في مخاطبة الشعوب العربية! حيث دأبت الأنظمة الحاكمة آنذاك على التشويش على التردد الهوائي الخاص بإذاعة وتليفزيون اسرائيل، منعا لاختراق الرأي العام لشعوبها وتعميم الرواية الصهيونية .
في الواقع، كانت قناة الجزيرة أول فضائية إعلامية خاطبت الوعي العربي بشكل مباشر وساهمت في تشكيله ومن ذلك المساهمة في الترويج لعملية السلام ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين بصورة غير مباشرة، الأمر الذي عكس صورة إسرائيل كأحد دول الجوار في منطقة الشرق الأوسط (حتى وإن استخدمت مصطلح دولة الاحتلال في معظم الاحيان).
بالرغم من هذا التحول غير البسيط، ظل المواطن العربي متشبثاً بالقضية الفلسطينية وبقيت حالة التعبئة ضد اسرائيل كعدو تنخفض وترتفع عبر الأجيال وفقا لتطور الأحداث وتتابعها في الأراضي المحتلة.
علاوة على أن فكرة مقاومة التطبيع ومنع اختراق وعي المواطن العربي تصدرت أجندة المجتمع المدني واعتبرت أحد أهم مرتكزات العمل الأهلي العربي، والذي نجح نسبياً في فصل الوعي الشعبي الرافض عن براغماتية العقل الرسمي تجاه ما أطلق عليه بعملية صناعة السلام والتسوية في الشرق الأوسط، إلى أن ظهرت – قبل سنتين – أصوات نخبوية عربية وحالات فردية شاذة تتحدث خارج السياق التاريخي المعروف وتقوم بشيطنة الفلسطينيين من خلال تقديم خطاب مأزوم ومهزوم ينادى – بكل وضوح – بالتخلي عن الفلسطينيين وقضيتهم ويروج لاستقبال إسرائيل ككيان شرعي وجار صديق للأسرة العربية! وقد لقيت تلك الأصوات بكل أسف رواجاً إعلاميا عبر وسائل التواصل الاجتماعي والاعمال السينمائية الممولة من حكومات عربية، الأمر الذي يطرح تساؤلات حول كيفية نجاح تلك الحالات في كسر الحواجز الوطنية وتخطي المحرمات القومية وتجاوز للحقائق التاريخية بهذا الشكل؟
المتابع للأحداث خصوصًا ما بعد موجات الاحتجاج الشعبي في المنطقة والتي عرفت بالربيع العربي، وكذلك التفاعلات الداخلية الفلسطينية من انقسامات سياسية وصراعات نفوذ على السلطة، يصل إلى نتيجة مفادها أن الشعوب العربية فقدت الأمل في تحقيق الحد الأدنى من التوافقات بين القوى والمكونات الوطنية المطلوبة للوصول إلى فتح آفاق التحول نحو العدالة والديمقراطية، وفضلت المطالبة بتحسين شروط حياتها الاقتصادية والاجتماعية والاكتفاء بالحد الأدنى من الحقوق.
هذا أدى إلى تجريف الحياة السياسية التي كانت قد سمحت – في السابق – بهامش محسوب من المعارضة، واستبدالها بأنظمة تمارس “الاستعراض” و “التطبيل” السياسي، وباتت أصوات المعارضة أبواقا للارتزاق وامتهان “التهريج” والرقص خارج السياق.
في ظل هذا المشهد العربي المتراجع من كافة النواحي، برزت – منذ فترة زمنية – حالة فلسطينية جديدة من الردح السياسي والفلتان الأخلاقي على وسائل التواصل الاجتماعي تتناحر وتخوّن فيها أطراف فلسطينية بعضها البعض! وأصبح المهرجون وأشباه السياسيين ومدَّعو الإصلاح فلسطينياً، يطلون عبر منصات الاعلام الاجتماعي يكتبون ويخطبون مباشرة ويومياً بأسلوب بذيء ولغة شعبوية فيها الكثير من التحقير للغير، ناهيك عن عدم احترامهم لأدنى قواعد الخصومة وقيم الحفاظ على الخصوصية، وبعيدة كل البعد عن المراجعة النقدية والموضوعية للتجربة السياسية الفلسطينية.
بالرغم من أن تلك الحالة عُرفت بفراغها الفكري وادعائها الباطل بأنها “معارضة فلسطينية”، لكنها استطاعت خلال الخمس سنوات الاخيرة من تعهير صورة الفلسطيني وطرح رواية سلبية عن نضاله، وتشويه للقضايا الوطنية وصناعة محتوى هابط في الخطابة باستخدام السب والقدح والذم والتشكيك المغرض في النظام السياسي الفلسطيني ورموزه! مستغلة حرية إقامتها في بلاد الغرب (الولايات المتحدة كمثال) وتلقى الدعم من أطراف خليجية لازالت توظف القضية الفلسطينية في معارك نفوذها الإقليمية وتسعى إلى تطبيع علاقاتها مع الدولة العبرية.
لكن ما يثير الانتباه هو ان هذه الحالة الفلسطينية الرذيلة والتي اتخذت من وسائل التواصل الاجتماعي منبراً للحديث كمعارضة فارغة المحتوى والمضمون، قد اكتسبت شهرة فلسطينياً وعربياً خصوصًا بعدما استخدمت اللغة العامية والخطابة الشعبوية الرديئة (الردح، والسب والقدح) كأساس لتشكيل رأي فلسطيني معارض، ويبدو أنها نجحت نسبياً في إثارة البلبلة وهتك الوعي الجمعي حتى وصل الامر إلى تغيير الصورة النمطية للفلسطيني لدى الشارع العربي، الذي ألهمته للأسف الخلافات الداخلية والمحتوى السلبي والرواية المغايرة التي تفوه بها من ادعوا أنهم “معارضة فلسطينية”، الشيء الذي شجع الأصوات العربية النشاز على الظهور منذ عامين تقريباً والبدء بشيطنة الفلسطيني والتشكيك بروايته التاريخية وحقه المسلوب!
إن هشاشة المشهد الفلسطيني تنذر بمزيد من الضعف والتعقيد على الصعيد الداخلي، قد تؤدي إلى استحالة بروز حالة معارضة حقيقية صحية تأخذ حيزاً طبيعياً في الحياة السياسية الفلسطينية والتي باتت شبه معدومة. بالمقابل فإن مهمة مواجهة أصوات النشاز العربية ومشاريع التصفية للقضية الفلسطينية قد تكون في غاية الصعوبة إن لم تتكاتف الجهود في إنهاء الانقسام وتجديد الشرعيات الفلسطينية.
*الكاتب باحث واستشاري في الشؤن السياسية والعلاقات الدولية – باريس