أحوال إسرائيل ليست وردية كما يظن المهوسون بها من حكام العرب

21 سبتمبر 2020آخر تحديث :
أحوال إسرائيل ليست وردية كما يظن المهوسون بها من حكام العرب
أحوال إسرائيل ليست وردية كما يظن المهوسون بها من حكام العرب

بقلم: رامي منصور

كان مشهد مروحية الشرطة التي تحلق يوميًا فوق البلدات العربية “الحمراء” التي طالها الإغلاق الليلي بسبب تفشي كورونا، وضوء المروحية الذي شق عتمة السماء بحثًا عن عرس في زقاق خلال الإغلاق الليلي، مثار تندر بأن “دولة الهايتيك” و”أمة الستارت أب” وكل تكنولوجيا التعقب المتقدمة والقوات الشرطية المنتشرة على الأرض غير قادرة على تفريق صف دحية أو “حناء عريس”.

لم يكن أصحاب الأعراس بحاجة لإشعال الإطارات المطاطية للتشويش على رؤية المروحية، بل منهم من استقبل أفراد الشرطة الذين حضروا لوقف العرس بزفة ظهر فيها أن رجال سلطة إنفاذ القانون بلا حول أو قوة، وهم أصلًا على ما يبدو لم يرغبوا في الصدام والمواجهة لأن ثقتهم مثل معظم المواطنين بالمستوى السياسي وصناع القرار كانت بالحضيض. رئيس حكومتهم يحتفل بصنع مجده الشخصي في حديقة البيت الأبيض الجنوبية، فيما هم مضطرون إلى مواجهة حالة التسيب التي عمت البلاد وعدم الالتزام بتعليمات الوقاية من فيروس كورونا وضبط الإغلاق الليلي.

اضطر كثر من ضباط وأفراد الشرطة أن يقوموا بدوريات مع مكبرات للصوت على سيارات “بيك أب” الشرطية مثل تجار الخضار والفواكه يناشدون السكان في البلدات الحمراء بالالتزام بالإغلاق. “أمة الستارت أب” تعجز عن ضبط التعليمات وإنفاذ القانون، فتلجأ إلى إستراتيجية “البيك أب” بدل “الستارت أب”. هكذا فعل أيضًا جنود الجبهة الداخلية في الجيش، الذين ساروا في الشوارع بسيارات رباعية الدفع يدعون الناس لإجراء فحوصات كورونا في البلدات العربية. كانت “البيك أب” هذه “إستراتيجية” الأحزاب في الحشد للمظاهرات وللالتزام بإضراب يوم الأرض مثلا. يخرج ناشطان بسيارة ويجولان شوارع القرية ويحشدان الناس عبر مكبرات الصوت للتظاهر. لم تكن بشكل عام الاستجابة لهذه “الإستراتيجية” موفقة بالنسبة للأحزاب، ولاحقًا للشرطة وجنود الجبهة الداخلية.

الناس أصلًا تنفر وتكره هذا الإزعاج، خصوصًا أنها قد تضر بعجوز أو مسن مريض، أو تفيق رضيعا ابن شهور معدودة، أو طالبا يدرس لامتحان. من تجربة، أجزم أنه طالتنا مسبات من الناس تكفي لأجيال عندما كنا نجول بمكبرات الصوت لحشد الناس للتصدي لآليات الهدم أو للالتزام بالإضراب، وكذلك اللامبالاة. حقيقة كان أمرًا مزعجًا، مكبرات صوت رديئة وصوت المنادي نشاز والساعات غير طبيعية بعدما عادت الناس من يوم عمل طويل. كنا جميعنا على حق، المنادون والناس؛ الحدث يستوجب التجوال بالقرية وحشد الناس لمنع الهدم في اليوم التالي، فالإمكانيات قليلة خصوصًا إذا ما رفض إمام المسجد أن ينادي الناس بمكبرات المسجد بالتوجه إلى منطقة الهدم المتوقع. والناس على حق أيضًا، كان الصوت مزعجًا جدًا خصوصًا كلما حاول المنادي أن يجعل صوته جهوريًا، تعب الأوتار الصوتية كان واضحًا والكلام شعاراتيًا مبتذلا جدًا. تبدلت الأزمان وكذلك الشعارات والمنادون ذاتهم.

لكن لا بأس أن تتبنى شرطة “أمة الستارت أب” تكتيكات وإستراتيجيات “البيك أب”. كانت فرصة للتندُر (وليس التندير المرادفة عندنا للبيك أب) في ساعات الإغلاق الليلي.

ونُبشر أهلنا في الإمارات أن تقنية التعقب والمراقبة الإسرائيلية التي يعجب بها محمد بن زايد لدرجة الهوس، غير ناجعة في مواجهة الأفراح الشعبية أو في الحارات، وهذا ليس جديدًا، فإحدى أساليب المقاومة في فلسطين كانت الأفراح والحدّاية الذين كانوا يرددون أبياتًا من الشعر الشعبي ملغومة سياسيًا تحث على المقاومة، وتحتال على رصد ومراقبة الحاكم العسكري في المنطقة. كانت حيلة لم ولن تقدر التقنية الإسرائيلية المتطورة على متابعتها.

تعيش إسرائيل حالة استقطاب شعبي واضحة مرشحة للتفاقم في الشهور المقبلة مع انعقاد جلسات محاكمة بنيامين نتنياهو بتهم الفساد وغيرها، وهذا الاستقطاب ليس بين يمين ويسار، وإنما بين أنصار نتنياهو ومعارضيه. فمثلا، يكتب رئيس تحرير صحيفة المستوطنين “ماكور ريشون” أن على الرئيس الإسرائيلي والمستشار القضائي للحكومة التوصل لصيغة للعفو عن نتنياهو مقابل تنحيه خصوصًا في ظل المظاهرات الأسبوعية الضخمة المناوئة لنتنياهو. وهدف العفو هو منع المزيد من الاستقطاب الشعبي والمجتمعي، خصوصًا إذا ما قرر المستشار القضائي للحكومة، في الشهور القريبة المقبلة، عدم قدرة نتنياهو إشغال منصبه بسبب انشغاله بالمحاكمة، وهذا من شأنه أن يدفع نتنياهو للتمسك للحكم وإحداث فراغ دستوري في رأس الحكم، وما سينعكس على أداء المؤسسات وتحديدًا الجيش، والأخطر من ذلك أن السلطة القضائية وسلطات إنفاذ القانون ستتعرض لهجوم شرس سيؤثر على شرعيتها بنظر المواطنين.

قد تكون مطالبة أصوات في اليمين بالعفو عن نتنياهو أو التوصل معه لـ”صفقة” بذريعة منع المزيد من الاستقطاب تهديدًا غير مباشر بإشعال الاستقطاب، لكنه يعكس إلى حد بعيد أحوال إسرائيل هذه الأيام، فقد تمكن نتنياهو في العقد الأخير تحديدًا من إحداث شروخ عميقة في المجتمع الإسرائيلي الهجين أصلا، وضرب شرعية المؤسسات القضائية والشرطة، وهذا الخطاب لا بد له إلا أن يتسلل لصفوف الجيش الإسرائيلي على مستوى الجنود وليس الضباط الكبار والقيادات، لكن إذا ما قرر التمسك بالحكم رغم محاكمته فإن مؤسسات الدولة ستصبح ضعيفة وفاقدة للشرعية بنظر قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي.

تبدو للناظر إلى إسرائيل من الخارج، وتحديدًا الحكام العرب، أنها في عز جبروتها وقوتها، وأن نتنياهو زعيم إسرائيل الأبدي، لكن التجربة التاريخية تظهر لنا أن استقطابًا وإن بدرجة أقل حصل في السابق بعد صعود بغين والليكود للحكم في 1977، وبعد اتفاقية أوسلو وما تبعها من استقطاب سياسي وشعبي حاد حُسم حينها باغتيال رابين ومشروعه، لتعيد الانتفاضة الثانية إعادة تشكيل الإجماع واللحمة الداخلية الإسرائيلية من جديد خلف أريئيل شارون. انتهت الانتفاضة الثانية وبعد سنوات صعد نتنياهو مجددًا للحكم وأعاد إنتاج الاستقطاب من جديد.

هذا لا يعني أن تظن السلطة الفلسطينية أو أي دولة عربية أخرى أن هذه فرصة للرهان على طرف ضد طرف في الاستقطاب الإسرائيلي الحاصل، مثلما حصل في السابق مثل الرهان على اليسار الإسرائيلي ضد اليمين. في التجربة السابقة لم ينجح هذا الرهان، وهذه المرة من المؤكد لن ينجح، لأن الاستقطاب ليس حول موقف سياسي أو السلام أو حقوق الفلسطينيين، بل أن “الأسباط السبعة” كما يسمي الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين المجتمع الإسرائيلي، لم يعد شاغلها العدو العربي أو التهديد العربي، بل ان صراعًا على هوية المجتمع والدولة ومؤسساتها يجري اليوم، فحُكم الرجل الواحد الذي تجاوز العقد أفسد ما أفسد وأشعل ما أشعل في المجتمع الإسرائيلي الهجين القائم على إجماع الحرب وليس على إجماع السلم أو اللاحرب.

ينعكس ما تقدم على أداء إسرائيل في مواجهة أزمة فيروس كورونا، فقد بدت في أمور مهمة كأنها دولة عالم ثالث، لجهة هيمنة رجل واحد – نتنياهو – على اتخاذ أو عدم اتخاذ القرار، وذلك وفق أولوياته ومصالحه السياسية، لدرجة أن المستوى المهني سواءً الصحي أو الاقتصادي بات مهمشًا أو غير قادر على التأثير المهني في السياسات. حكم الرجل الواحد جعل القرارات في مواجهة كورونا متخبطة ومتأخرة وعرضة للمساومات مع الشركاء في الائتلاف مثل الحريديين، ودفع الناس ثمن ذلك بصحتهم وأحوالهم المعيشية والاقتصادية.

أما القطاع الصحي، فتبيّن أنه عاجز عن مواجهة الأوبئة وغير مجهز لمواجهة أزمة صحية لفترة طويلة على الرغم من القدرات الصحية والتقنية والعملية والاقتصادية الإسرائيلية، إلا أن مستشفيات إسرائيل وقوات الطوارئ مجهزة لحالات الحرب بما فيها البيولوجية لكنها ليست مجهزة لمواجهة الأوبئة أو الأزمات الصحية الطويلة.

كما تبيّن أن البيروقراطية الإسرائيلية بعيدة جدًا عن التطور الذي تصور إسرائيل نفسها على أنها رائدة فيه، ولا يتعلق ذلك فقط بحكم الرجل الواحد أو الحكم الشخصي، بل لأسباب عديدة يطول شرحها، لكن من المؤكد أن حالة اللاستقرار السياسي في السنوات الأخيرة كانت مؤثرة سلبًا، خصوصًا أن الحكومة الحالية لم تنجح بالمصادقة على الميزانية السنوية وجرى ترحيل الأزمة مؤقتًا.

أخيرًا، ثبت مرة أخرى أن إسرائيل قائمة على ثقافة وإجماع الحرب، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وحتى صحيًا، فهي غير جاهزة لمواجهة كوارث أو أزمة إنسانية مثل الأزمة الحالية، وإنما لمواجهة طوارئ الحرب التي لن تطول مثل الأوبئة أو الكوارث الأخرى التي لا قدرة للإنسان التحكم بها أو السيطرة عليها.

ما يهم الإسرائيلي اليوم ليس التطبيع والتحالف مع الإمارات، فلم نلحظ احتفاءً شعبيًا بذلك، بل ما يهمه اليوم هو الأوضاع الاقتصادية والمعيشية ومصير بنيامين نتنياهو شخصيًا. ليست أحوال إسرائيل وردية كما يظن المهوسون بها من بعض حكام العرب.

عن “عرب ٤٨”