بقلم: سليمان أبو ارشيد
انطباعي الشخصي أنّ هناك منحى مشتركًا للأقطاب الرئيسية في القائمة المشتركة – أو لنقل قطبيها الرئيسيين – “الجبهة” و”الإسلامية” في تفكيك المشتركة، بعد أن توصّلا إلى استنتاج بأنها لم تحقّق الهدف المرجو منها في تشكيل جسم مانع وإعادة تجربة حكومة رابين إلى الحياة، وبالتالي الدفع باتجاه “السلام” و”المساواة”، وأن مثل هذه الفرصة لم تعد سانحة في الانتخابات القريبة القادمة.
وبغضّ النظر عن أخطاء التقدير التي وقعت فيها أطراف المشتركة، فإنّ تجربة أحزابنا العربية المستندة إلى “تراثنا السياسي” لم تعوّدنا على النقد الذاتي والاعتذار عن الخطأ، حتى لو أنّها توصلت داخليا إلى مثل هذا الاستنتاج وذلك لسببين، الأول “لأنها لا تخطئ” والثاني لأن إصلاح الخطأ ربما سيكون بارتكاب خطأ أكثر فداحة وهو تفكيك المشتركة، بدلًا من تصويب نهجها وإصلاح حالها، وهو ما لن يجازف أي حزب في الإفصاح عنه صراحة.
ولطالما شهدت ساحاتنا العربية والفلسطينية وقوع أبشع حالات الانقسام والشرذمة تحت وابل من شعارات الوحدة ورص الصفوف، والأهم من ذلك كله أنّ اعتبارات الوحدة والفرقة لدى الحديث عن الكنيست هي اعتبارات انتخابية تكتيكية بحتة، تحكمها نسبة الحسم والمصالح والمنافع الفئوية والعامة.
وما يجهله الكثيرون أنّ وحدة “العرب” وجعلهم يتدفقون إلى الصناديق لإحراز 15 عضو كنيست لم يكن “مصلحة عربية” محلية فقط، بل هي حبكة تمتد خيوطها إلى ما وراء البحار وتهدف إلى ترجيح كفّة المعسكر المناوئ لنتنياهو وإحراز جسم حاسم يمنعه من تشكيل حكومة، وينقل بالتالي الأحزاب الحريدية إلى جهة غانتس ثم يخرج العرب بعد أن يكونوا قد أدّوا المهمة المطلوبة منهم.
إنّه سيناريو حكومة رابين عندما حصل المعسكر الذي كان يسمى بـ”معسكر السلام” على 61 مقعدًا مع “العرب” ومنع شامير من تشكيل الحكومة، الأمر الذي دفع “شاس” إلى الانتقال إلى المعسكر الآخر والمشاركة في حكومة رابين التي دعمها العرب من الخارج، قبل أن تنسحب “شاس” منها لتعتمد كلية على أصوات العرب.
هذا السيناريو لم يتحقق رغم بذل “العرب” لأقصى جهد وتوفيرهم 15 عضو كنيست، أولًا لاختلاط اليمين باليسار في تشكيلة محورها مناوءة نتنياهو (من يعالون وتسفي هندل وهاوزر وليفي أبوكسيس وحتى غانتس ذاته)، هذه التشكيلة لم تكن من التماسك والجاهزية بأن تقيم حكومة تعتمد على أصوات “العرب” وبالتالي دفع الأحزاب الحريدية، التي أصبحت أكثر التزاما باليمين إلى رؤية مصلحتها في حكومة مدعومة من العرب.
من هنا كان سوء التقدير المرتبط بالتوصية على غانتس لتشكيل الحكومة، والتي استعملها غانتس لتعزيز فرصه في الدخول إلى حكومة نتنياهو، عوضًا عن تشكيل حكومة تعتمد على أصوات العرب، ويعود سوء التقدير ذاك إلى قراءة خاطئة للخارطة الانتخابية التي انقسمت فيها الساحة الإسرائيلية، لأول مرّة، وعلى مدى ثلاث جولات انتخابية، على شخص نتنياهو وليس على أساس سياسيّ وكانت قضايا الاستيطان والاحتلال والموقف من العملية السلمية خارج الحلبة الانتخابية وموضع إجماع بين أطرافها المتنازعة.
لم يدرك العرب أنّ المشتركات السياسية المرحلية والاستراتيجية بين نتنياهو وغانتس أكبر بكثير من المشتركات القائمة بينهم وبين الأخير، ولذلك كان من الطبيعي أن يتركهم ويرتمي في أحضانه، كما لم يلتفتوا إلى أنّهم يقفون في نفس المتراس مع يعالون وهاوزر وهندل وحتى ليبرمان، وربما جاء انشقاق ساعر وانضمامه إلى هذا المعسكر بل وتزعّمه له، دليلا بأثر رجعي، على أنّ شعار إسقاط نتنياهو أو إبقائه يفتقر إلى أي معنى سياسي بالنسبة لنا.
وفي هذا السياق يمكن اعتبار “فلتة” منصور عباس هي نتيجة لأزمة المشتركة وليس سببا لها، وهي “محاولة تعيسة” للفكاك الفردي أو الفئوي من الإسار الذي وضعت فيه المشتركة نفسها برفعها شعار إسقاط نتنياهو والتوصية على غانتس، ولم يكن من المستغرب أن نشهد بعدها هرولة الآخرين نحو نيسانكورن ومشهد التسابق المحزن على فتات الإنجازات، والانقسام مدفوع الثمن في التصويت على حل الكنيست.
ويبدو أنّ منصور عبّاس، الذي يقول لسنا في جيب أحد، يقصد أولًا أنه لا يريد أن يكون في جيب “الجبهة”، التي ألمح إلى أنّها تهيمن على قرار المشتركة وتبقيها في شقة المعسكر القائم على مناوأة نتنياهو فقط، حتى بعد أن تأكّد أنّ الانقسام الإسرائيلي لا يستند إلى أساس سياسي، وهو يلمح، أيضًا، إلى اعتبارات اجتماعية ليبرالية.
وفي هذا الباب، من المفيد التذكير أنّ مجتمعنا وقواه الحزبية موحدة حول قضيتنا الوطنية وتفرعاتها السياسية العامة والمحلية التي هي محط إجماع، وأنّه من الخطر بمكان الانسياق وراء المجتمع الإسرائيلي الذي بدأت القضية السياسة تنسحب من أجندته الانتخابية لتحل محلّها قضايا اجتماعية اقتصادية وديمقراطية ليبرالية، مجتمعنا أيضا منقسم حولها، لأنها ستزيد من فرقتنا بدل وحدتنا.
ويجب النظر بخطورة بالغة إلى ما قاله منصور عباس من أن الحركة الإسلامية أقرب إلى اليمين في القضايا الاجتماعية، من حيث إعطاء الأولوية لهذه القضايا على حساب القضية الوطنية التي يفترض أن تبقى تتصدّر أجندتنا. وفي هذا الباب علينا الإسراع في الخروج من دائرة الانقسام الإسرائيلي بالتزامن مع خروج قضيتنا الوطنية من دائرة هذا الانقسام حفاظا على وحدتنا وقضيتنا.
وعودة على بدء، فإنّ اعتقادي بالتوافق على تفكيك المشتركة من قبل أطرافها، مردّه ليس فقط إلى الأسباب آنفة الذكر، بل أيضا إلى الفشل في استثمار أصوات العرب في كتلة كبيرة بائنة وظاهرة و”مستفزّة” بالنسبة للأطراف التي تتحسس من العرب، من جهة، وثقيلة الحركة والقدرة على المناورة نظرا إلى حجمها الكبير، من جهة أخرى.
وباعتقادي، فإنّ ذات الأطراف التي كانت معنية بوحدة المشتركة وصرفت عليها الملايين، معنية اليوم بتفكيكها لصالح قائمتين يمكن تمرير دعم واحدة منهما على الأقل من الخارج لحكومة برئاسة لابيد أو حتى ساعر دون إثارة الحساسيات.
“عن “عرب ٤٨”