حاولت إسرائيل طوال سنين عديدة التحكم بسردية التاريخ الفلسطيني وممارسة الرقابة عليها، وهو ما بالإمكان رؤيته في منهاج تعليم الفلسطينيين مواطني إسرائيل. فهذا المنهاج يقوم على الرؤية الصهيونية ولا يعرض في أي فصل من فصوله السردية الفلسطينية وموروثها…”.
وتقول د. سميرة عليان في بحث ترجم أجزاء منه ونشرها مركز “مدار” للدراسات الإسرائيلية تحت عنوان “الصراع على مناهج التعليم في القدس الشرقية”، إن هذا التحكم بالمواد التاريخية وبالسرديات الوطنية هو جزء مما يصفه إيليا زريق بـ”عملية احتلال مستمرة” التي خلافا للاحتلال نفسه، لها تأثير على المجتمع وعلى الثقافة والتعليم، وهي ترتكز في تغيير وعي الخاضعين للاحتلال، ويرى زريق أن الأثر المركزي لعملية الاحتلال المستمرة في هذا السياق هو انعدام فرص بناء السردية التاريخية الفلسطينية.
ويمثل إصدار كتب التدريس الفلسطينية بين عامي 2000 و2008، بداية سيرورة بناء المعرفة التاريخية بمنظور الخاضعين للاحتلال. لكن كتب التدريس لا تصل إلى أيدي الطلاب اليوم أيضا إلا بعد إخضاعها للرقابة، خصوصا في المناطق التي يمكن ممارستها فيها، كما في القدس الشرقية، كما تقول عليان.
ومعروف أنه قبل حرب العام 1967، كانت مدارس القدس الشرقية بملكية حكومة الأردن وتحت إدارتها، ومع ضم القدس الشرقية حاولت إسرائيل أن تدخل إلى مدارسها الرسمية منهاج التعليم الاسرائيلي “البجروت”، الذي يدرس في المجتمع العربي بما في ذلك تعليم اللغة العبرية، لكن الفلسطينيين في القدس الشرقية رفضوا أي تعاون مع الإدارة الإسرائيلية، واعتبروا القبول بالمنهاج الإسرائيلي اعترافا بسيادة الدولة الإسرائيلية على القدس الشرقية، وهو ما تشير إليه عليان، التي تؤكد أن سلسلة المحاولات الإسرائيلية التي جرت حتى نهاية التسعينيات لتطبيق منهاج التعليم الإسرائيلي في تلك المدارس جميعها باءت بالفشل.
وفي العام 1994 وخلال التوقيع على اتفاقيات أوسلو، نقلت إسرائيل إلى السلطة الفلسطينية الصلاحيات والمسؤوليات في بعض المجالات المدنية في الضفة الغربية وقطاع غزة، كان من بينها مجال التعليم، حيث وضعت، كما يبين البحث، تلك الاتفاقيات تقسيما توافقيا للمهام والواجبات بين وزارة التعليم الإسرائيلية ومقابلتها في السلطة الفلسطينية، تكون بموجبه وزارة التعليم الاسرائيلية وإدارة التعليم في بلدية القدس مسؤولتين عن طواقم هيئة التدريس وعن تشغيل المدارس، بينما تتولى السلطة الفلسطينية مسؤولية تأليف الكتب المدرسية ومنهاج التعليم بأكمله، ومع ذلك لم يجر تغيير منهاج التعليم في القدس الشرقية واستبداله بالمنهاج الفلسطيني سوى في العام 2000، حيث تسلمت السلطة الفلسطينية آنذاك المسؤولية عن صياغة بنود المنهاج ومراحله.
إلا أن وزارة التعليم الإسرائيلية واصلت محاولاتها لتطبيق منهاج التعليم الإسرائيلي في تلك المدارس وخصوصا بواسطة إلزامها بتدريس اللغة العبرية وممارسة الرقابة على المضامين التي يتم تدريسها، وخلال السنتين 2013 -2014 بدأت وزارة التعليم الإسرائيلية الدفع نحو منهاج تجريبي يجري في خمس مدارس ثانوية يتيح للطلاب تطبيقه بداية من شهادة الحصول على شهادة “بجروت” إسرائيلية بدل شهادة “التوجيهي” الفلسطينية، لا بل منحت محفزات اقتصادية للمدارس التي تبنت هذا المنهاج فزادت حجم الميزانيات المخصصة لها ومع البدء بتطبيق هذا المنهاج، كما تفيد عليان، أخذت خمس مدارس من أصل المدارس الـ88 الرسمية العاملة في القدس الشرقية، على عاتقها تدريس منهاج التعليم التجريبي المقترَح فحظيت في أعقاب ذلك بامتيازات ومحفزات مختلفة قدمتها وزارة التعليم الإسرائيلية.
ومنذ ذلك الحين، تواصل وزارة التعليم الإسرائيلية عرض المنهاج التجريبي على مدارس أخرى مختلفة مدعمة عرضها هذا بمحفزات مماثلة لدفع هذه المدارس لتبني المنهاج الإسرائيلي وتدريسه، إذ تشير عليان إلى أنه في العام الدراسي 2016 -2017 كانت 16 مدرسة رسمية معترف بها، على الأقل، تدرس هذا المنهاج إلى جانب منهاج التعليم الفلسطيني، وقد شهدت السنوات الأخيرة زيادة مضطردة في أعداد هذه المدارس.
وبهذا الصدد، حاور موقع “عرب 48” الباحثة والمحاضرة في الجامعة العبرية، د. سميرة عليان، حول موضوع كتابها الذي صدر باللغة الإنجليزية وأبحاثها المكملة عن الموضوع.
“عرب 48”: عرضت في بحثك نماذج للعديد من المواد التي أغاظت إسرائيل في المناهج الفلسطينية ولذلك قامت بشطبها من الكتب التعليمية المتداولة في شرقي القدس، وهي تتعلق أساسا بالهوية الوطنية الفلسطينية والرواية التاريخية؟
عليان: بعد مراجعة المواد والمقاطع التي قامت الرقابة الإسرائيلية بشطبها مناهج التعليم في الكتب المتداولة في القدس الشرقية، انطباعي كان أن لا جدوى عملية تذكر من هذه الرقابة وأن الهدف الأساس هو إثبات أنها هي صاحبة القرار والأمر والنهي في القدس فقط، وخصوصا أن هذه الرقابة لم تمارس بشكل لافت على منهاج صفوف الحادي عشر والثاني عشر وهي المواد التي يجري فيها امتحان التوجيهي، لأن إسرائيل غير معنية بأن تكون متهمة بإسقاط الطلاب في هذا الامتحان.
وعليه فإن كتب تلك الصفوف تأتي من رام الله بصيغتها الفلسطينية الأصلية مع شعار السلطة الفلسطينية وتدخل الصفوف دون أن يمسها “سوء”، أو يشطب منها أي حرف من قبل الرقابة الإسرائيلية، ومن الواضح أن الكتب في هذه الصفوف تستكمل ما شطبته إسرائيل في كتب الصفوف الدنيا، علما أن عملية الشطب ذاتها تفتح العيون وتثير الفضول أكثر حول المواد التي جرى شطبها وتجعل الطالب الفلسطيني يهتم أكثر بالمواد التي تثير غضب إسرائيل.
لكن الأخطر برأيي هو إدخال منهاج “البجروت” الإسرائيلي الذي بدأ كعملية “تسلل” وعرض كخيار إضافي إلى جانب التوجيهي، لكن في الحقيقة هو يسعى لتحييد المنهاج الفلسطيني المتمثل بالتوجيهي واستبداله بمنهاج البجروت الإسرائيلي.
“عرب 48”: العملية التي بدأت كزحف معزز بميزانيات وامتيازات تحولت في الآونة الأخيرة، إلى ما يشبه اجتياح قد يهدد وجود المنهاج الفلسطيني في مدارس القدس بكل ما يترتب على ذلك من تداعيات؟
عليان: تقديراتي المتشائمة أنه إذا ما تواصل هذا الزحف دون اصطدامه بعوائق جدية فإنه خلال بضع سنوات لن يكون منهاج توجيهي في مدارس القدس، وأنا أبني تقديراتي أولا على الشعور بالضياع الذي يسود أهل القدس ومدارسها، بأن السلطة الفلسطينية تخلت عنهم وتركتهم ليواجهوا مصيرهم وحدهم، وثانيا على تعزز الانطباع بأن امتحان التوجيهي يعتمد على الحفظ والبصم وهو ما يفرض على الطالب حبسا منزليا لأشهر عدة لإنجاز هذه المهمة والتمكن من اجتيازه بنجاح، دون وجود أي مبادرة من قبل وزارة التعليم الفلسطينية لإحداث تغييرات جوهرية في مبنى الامتحان ومركباته، ناهيك عن كون الامتحان كتلة واحدة بمعنى أن الرسوب في موضوع واحد يتطلب إعادة جميع المواضيع وأنه قد يحرم فئة واسعة من الطلاب من استكمال تعليمهم العالي إذا ما قورن بامتحان “البجروت”.
طبعا، هذه الأسئلة تثار عندما يتوفر الخيار الآخر وهي لا تطرح في الضفة الغربية مثلا، ولكنها في القدس أصبحت أسئلة شرعية تتداول من قبل الأهالي الذين يفتشون عن مصلحة أبنائهم التعليمية ويقارنون بين حسنات وسيئات كل من الخيارين بغض النظر عن الاعتبارات “السياسية الوطنية” التي برأيي لم تعد كافية وحدها لتأمين الفوز في الصراع الدائر.
الكثير من الأهالي يرون “الوجه الحسن” للبجروت، إيجابياته وأهمها سهولة الحصول على شهادة النجاح، وخصوصا بالنسبة للطلاب المتوسطين وتحت المتوسط وإمكانية الإعادة في الموضوع الذي يرسب فيه الطالب أو يريد أن يحسن علامته فيه حتى استكمال “البجروت” بالمعدل الذي يحقق له الالتحاق بالتعليم العالي، هذا إلى جانب توفير اللغة العبرية التي تسهل عليه الالتحاق بالجامعات والمعاهد الإسرائيلية، ناهيك عما يوفره الالتحاق بهذا المساق من إمكانية للاندماج بسوق العمل الإسرائيلي.
“عرب 48”: الجامعات والمعاهد الإسرائيلية تدلي هي الأخرى بدلوها في هذا المجال وتقترح على الطلاب المقدسيين برامج وامتيازات خاصة؟
عليان: صحيح وهذا الأمر يؤتي أكله في أعداد الطلاب المتزايدين في هذه المؤسسات وخاصة الجامعة العبرية وكلية دافيد يلين، وأنا أستطيع أن أعطيك معطيات عملية من الموقعين بصفتهما مكاني عملي، ففي الجامعة العبرية في كلية التربية التي أعمل فيها كان من بين دفعة 240 طالبا قبلوا قبل سنتين 120 طالبا من القدس، أما كلية “دافيد يلين” التي كانت تقتصر سابقا على مسار “التعليم الخاص” فقد فتحت اليوم مسارين إضافيين هما “التعليم الرسمي” و”جيل الطفولة المبكرة” وهي تضم مئات الطلاب من القدس.
كما أن الجامعة العبرية فتحت سنة تحضيرية خصيصا أسمتها “صدارة” خصيصا لطلاب القدس، هذا إضافة إلى فتح سنة تحضيرية في كلية “هداسا”، علما أن هذه الأرقام الكبيرة لا تجدها في مواضيع العلوم والطب وغيرها حيث لا يزال التوجيهي يحظى بحصة الأسد ولا تزال جامعات الضفة هي مقصد هؤلاء الطلاب الأول.
“عرب 48”: السنوات الأخيرة شهدت تعزيزا لخطة أسرلة منهاج التعليم في القدس عبر سياسة العصا والجزرة؟
عليان: وزارة التعليم الإسرائيلية تسعى إلى تثبيت منهاج “البجروت” كخيار قائم في جميع مدارس القدس وهي تعاقب المدارس التي ترفض ذلك، كما حدث مؤخرا مع المدارس الست التي أضربت مدارس القدس تضامنا معها.
الأمر الثاني أن أي مدرسة جديدة يتم فتحها في القدس الشرقية يجب أن تتبنى نظام “البجروت” فقط، هذا ناهيك عن الامتيازات التي تحظى بها المدارس القائمة التي تدخل هذا البرنامج وتشجعه في الميزانيات والملاكات وغيرها، وتجدر الإشارة إلى أن الكثير من مدراء المدارس الرسمية اليوم هم من سكان القدس من خريجي “دافيد يلين” أساسا، حيث كسر هذا الطابو بأن يكون مدير المدرسة الرسمية، عربيا من الشمال أو المثلث، واليوم هناك أكثر من ثلث مدراء المدارس الرسمية هم من سكان القدس.
هذا الأمر يجعل الموضوع ناجعا بشكل شخصي، حيث تستطيع أنت كمعلم أن تصبح مديرا أو ربما مفتشا وهناك مفتش واحد من القدس، لا أعرف إذا كان يحمل الجنسية ام الإقامة فقط، بالنسبة للمدراء لا يشترط حمل الجنسية، وهؤلاء المدراء هم بذاتهم موديل تسويق لبرنامج “البجروت” الإسرائيلي.
كما أن المدير، أي مدير يبتغي مصلحة الطالب التعليمية المجردة سيجد أن برنامج “البجروت” الإسرائيلي مناسب لفئة واسعة من الطلاب المتوسطين الذين لا يستطيعون الصمود في شروط التوجيهي القاسية، وإلى جانب التسهيلات التي تعرضها الجامعة العبرية مثلا يستطيع الطالب الأقل من الوسط القبول في الجامعة العبرية، بينما لن يتمكن من القبول في بير زيت.
طبعا أنا أسوق هذه التفاصيل لأقول إن من يريد مواجهة والتصدي لمنهاج “البجروت” الإسرائيلي يجب أن يأخذ ذلك في الحسبان، لأن العوامل السياسية الوطنية وحدها لم تعد كافية.
“عرب 48”: القضية كما وصفتها هي قضية صراع بين طرفين كلما تراجع طرف تقدم الطرف الآخر، وكما يتضح فإن السنوات الأخيرة تشهد تراجعا هو أقرب إلى انسحاب للسلطة الفلسطينية من القدس؟
عليان: من الاستطلاعات التي قمت بها في السابق واليوم ألاحظ ازديادا كبيرا في نسبة الأهالي الذين يؤيدون منهاج “البجروت” الإسرائيلي، ومرد ذلك كما يبدو حالة الضياع التي يعيشها أهل القدس والشعور بغياب العنوان الوطني والقيادة الوطنية، في ظل حالة الحصار الاقتصادي المتمثلة بالجدار والحواجز وقطع المدينة عن محيطها والتي لا تترك لأهل القدس الكثير من الخيارات.
د. سميرة عليان: محاضرة وباحثة في الجامعة العبرية وكلية التربية دافيد يلين. نشرت الكثير من الأبحاث في مجالات علم الاجتماع التربوي والمناهج. كتابها الذي نشر في سنة 2020 باللغة الإنجليزية عن التربية في القدس الشرقية بعنوان Education in East Jerusalem: occupation political power and struggle.
تبحث في المجتمع العربي وفي السنوات الأخيرة تعمقت أبحاثها بما يدور من تحليل المناهج والسياسات في القدس الشرقية.