لم تعد النداءات الإنسانية والصرخات التي تنطلق من أفواه ملايين الجياع الذين أوشكوا على الموت المحقق في قطاع غزة ليس بسبب القصف والعدوان المتواصل، بل بسبب المجاعة التي عصفت بهم وغرزت أنيابها في أجسادهم النحيلة في ظلّ تخاذلٍ وتآمرٍ عالميٍ وصمتٍ على إغلاق الاحتلال لمعابر غزة ومنع دخول المساعدات، حتى وصلت المجاعة لمستوياتٍ كارثيةٍ، وظهرت أوراق شجرة التوت في أسواق غزة بديلاً عن أكلة “ورق العنب”، لتكشف عورة العالم أجمع الذي أصبح يراقب بصمتٍ هذه الجريمة البشعة التي تمارس في وضح النهار أمام مرأى ومسمع الجميع، دون أن يحرك أحدٌ ساكنًا.
فلم تعد المجاعة القاتلة في غزة مجرد أجراسٍ يدق العالم ناقوس خطرها، كما تفعل المؤسسات الدولية الإنسانية – منذ بدء العدوان – في ترف إطلاق البيانات التحذيرية والأرقام التخديرية التي لم تعد تسمن أهل غزة ولا تطعمهم من جوع، في ظل استمرار العدو وإصراره على مواصلة تجويع أهل القطاع حتى الموت، فأصبح مشهد استشهاد الأطفال بالجوع أمرًا شبه اعتيادي لعالمٍ ظالمٍ يراقب ويصمت ولا يتحرك لوقف الجريمة.
ومع استمرار المجاعة والكارثة، يوثق رواد التواصل الاجتماعي مشاهد كثيرة شديدة القسوة، وأكثر بلاغة من فصاحة بيانات العالم وتنديده، وأحدها ذلك المشهد لاستشهاد الطفل عزام الشاعر في شمال غزة نتيجة عدم توفر الغذاء والدواء اللازمَين في ظل الحرب الإسرائيلية على القطاع.
ليس هذا فحسب، بل إنّ الفيديوهات والصور التي تكشف صورة وحش المجاعة الذي بات ينهش أجساد الأطفال في غزة في ظل انهيار المنظومة الصحية ومنع دخول المساعدات والمواد الأساسية الطبية والغذائية، بكل قسوته وفجاجته، الذي كان ينبغي أن يتحرك لوقفه العالم أجمع بخطواتٍ حقيقية، بعيدًا عن مجرد الشجب والتنديد والمطالبات الفارغة.
ويوثق الصحفي أنس الشريف مشهدا موجعا لأحد الأطفال الصغار في غزة، في المستشفى، ملقى في حاضنة الشفاء موصولاً بالأجهزة الطبية، مقاربا على الموت، أمام عجز كاملٍ من الطواقم الطبية لتقديم أي مساعدة له في ظل انعدام الأدوية والغذاء اللازم لإنقاذه.
أما الطفل محمد، ذو الثلاث سنوات، فهو ضحيةٌ أخرى في شمال غزة، ويكشف المشهد المصور الذي تم توثيقه صورته وهو يتضور جوعا ويتلوّى من شدة الألم، بسبب سياسة الإبادة المتعمدة القائمة على المجاعة التي يمارسها جيش الاحتلال في غزة.
ويرى رواد التواصل في تعليقهم على المشهد أنّه كان من الممكن تجنب هذه المعاناة، لكن الغرب يرفض إجبار الاحتلال على كسر الحصار وفتح معبر رفح لإيصال المساعدات، في ظل صمتٍ عربيٍ وإسلاميٍ كصمت أصحاب القبور.
ليس الأطفال وحدهم من يثيرون الوجع والحسرة والقهر، في ظل العجز عن إنقاذ غزة، فهذا حاجٌ غزاويٌ كبيرٌ في السنّ محدودب الظهر، ينتظر لساعاتٍ طوالٍ منذ الصباح الباكر للحصول على لقيمات طعامٍ لعائلته، يكشف جزءًا صغيرًا من معاناةٍ يوميةٍ وشقاءٍ يكابده أهل غزة كل يوم، في سبيل ما يجعلهم قادرين على البقاء على قيد الحياة التي أصبح يخط مصائرها عتاة المجرمين بمباركة العالم الغربي والصمت العربي والإسلامي.
وتلك امرأة كبيرة في السن تطلق صرخة من غزة – إن كان بقي عربٌ ومسلمون في هذه الدنيا – على حد تعبيرها، لتخبرهم برسالةٍ مفادها أنّ: “الجوع قتل الصغار والكبار.. افزعولنا ياعالم”.
وذلك مشهدٌ مؤلم آخر، ينقل جزءًا من المعاناة التي يعيشها أهلنا المحاصرون في شمال غزّة رجال ونساء وأطفال يقفون ساعات في الحر الشديد للحصول على الماء الذي لم يعد متوفرًا.
ولا تتوقف المشاهد التي تطرق ضمير العالم الصامت، بتلك الكلمات التي يطلقها أطفال غزة وهم يحملون أوانيهم الفارغة منتظرين من يملأها ليسد جوعهم وينقذهم من وحش المجاعة الذي فتك بأجسادهم، ليوجهوا رسالة للعالم أجمع: “نحن في الشمال في مجاعة”.
وذلك طفلٌ آخر يبكي من شدة وجع الجوع والقهر، ويستصرخ العالم الظالم، ويدعو على كل من خذل غزة، ولم يحرك ساكنا أمام مشاهد الناس يموتون جوعًا إن لم يموتوا بالقصف الإسرائيلي.
المدوّن عبدالله السعيدي يوثق مشهدًا، يخلع القلوب ويكسر الأرواح، لوالدٍ مكلومٍ يترقب أنفاس طفلته الأخيرة التي توشك أن ترحل شهيدة بسبب الجوع الذي فتك بجسدها النحيل، ولا يملك أمام قهره وعجزه سوى أن يسعى لبث الأنفاس في جسدها وتبليلها جسدها بالدموع، ليس في جعبة الآلامِ مُتَّسَعُ.. قد فاض من كأسِهِ – يا ربّنا – الوجعُ.
وليس أشدّ وجعًا من ذلك المشهد الذي يظهر فيه أحد أبناء غزة وهو يأكل الأعشاب الجافة بسبب المجاعة، فيما تتكدس طوابير من آلاف شاحنات المساعدات أمام المعابر، ليتلف أغلبها في ظل صمت العالم وعجزه وتآمره لمنع إدخالها لإنقاذا أهل غزة من شبح الجوع.
مستويات كارثية من انعدام الأمن الغذائي
وتفيد تقارير ميدانية وأممية بتضرر سكان غزة من انعدام الأمن الغذائي بنسبة تقارب 100%، في حين وصلت قطاعات ومرافق حيوية مرحلة الانهيار، في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي على القطاع منذ 7 تشرين الأول الماضي.
وقال تقرير دولي إن نحو 96% من سكان غزة يواجهون مستويات مرتفعة من انعدام حاد للأمن الغذائي.
ووفق “مبادرة التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي”، فإن أكثر من 495 ألف شخص، أو أكثر من خُمس سكان غزة، يواجهون مستويات كارثية هي الأخطر من انعدام الأمن الغذائي.
وورد في التقرير “تتضاءل باستمرار مساحة العمل المتاحة للمنظمات العاملة في المجال الإنساني، والقدرة على تقديم المساعدات بأمان للسكان مع تردي الأوضاع الحالية، وعدم استقرارها إلى حد كبير”.
وتسبب الهجوم على رفح في إغلاق المعبر البري على حدود غزة مع مصر، والذي كان طريقا رئيسيا لتوصيل المواد الغذائية والإمدادات الأخرى، إضافة إلى كونه نقطة إجلاء للمدنيين المبتلين بأمراض خطيرة أو المصابين.