52 ألف عامل فلسطيني “غير قانوني” في دولة الاحتلال

22 أكتوبر 2025آخر تحديث :
52 ألف عامل فلسطيني “غير قانوني” في دولة الاحتلال

بعد عام ونصف من محاولات العمل على بسطة لبيع الخضار والفواكه في ميدان بلدة جبع جنوب مدينة جنين، قرر “م. ر” المخاطرة والدخول إلى سوق العمل الإسرائيلي بطريقة غير قانونية.

تحدث العامل الفلسطيني مع “القدس العربي” مُخفيا اسمه، وقال: “نعيش في رعب يومي، لكن هذا الرعب يتلاشى عند توفر فرص عمل تمكنني من إعالة أسرتي بعد أشهر من العوز والحاجة”. وأضاف: “هناك المئات مثلي خاطروا بحياتهم، الحياة صعبة للغاية، ولن يفهم معاناتنا إلا من يعيش نفس ظروفنا”.

وأضاف أن الأمل كان قائماً بأن تصبح الأمور قانونية مع نهاية الحرب، إلا أن الواقع يظهر أن إسرائيل لا تنوي إعادة الأمور كما كانت سابقا.

أثر الحرب على العمال الفلسطينيين

مع توقيع اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، شعر العمال الفلسطينيون الذين فقدوا وظائفهم مطلع السابع من أكتوبر 2023 بالارتياح المبدئي، لكن ذلك لم يحمل لهم أخبارا سارة بالسماح بعودة أكثر من 200 ألف عامل.

وكانت بعض الجهات النقابية والمواقع المحلية الفلسطينية قد تداولت أخبارا تفيد بعودة العمال، ما دفع مزيدا من العمال إلى المجازفة بحياتهم للوصول إلى أماكن تتيح لهم تأمين لقمة العيش، رغم المخاطر المحتملة من الموت أو الإصابة أو الاعتقال.

وفي هذا السياق، نشرت نقابة العمال العرب في الناصرة، يوم الإثنين، بيانا موجّهًا للعمال بعنوان: “ماكينة الإشاعات والكذب تتواصل على العمال الفلسطينيين، وهذه المرة بثوب النصب والاحتيال”، وذلك بعد أسبوع من انتشار إشاعات أطلقتها جهات فلسطينية غير رسمية، زاعمة عودة العمال إلى الداخل المحتل خلال النصف الأول من الشهر القادم.

وحذرت النقابة العمال الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة من التعاطي أو التعامل أو التواصل مع شبكات التواصل الاجتماعي التي تنشر إعلانات حول العودة للعمل في القريب العاجل، أو تلك التي تتضمن دعوات “التعجيل في سحب مخصصات التقاعد والضمان الاجتماعي من صناديق التقاعد الاجتماعية الإسرائيلية”.

وجاء في نصوص الدعوات التي تستغل واقع العمال: “إذا لم يتم سحب المخصصات خلال أسبوع، فسيتم فقدانها من صناديق التقاعد”. وأوضحت النقابة أن الهدف من هذه المنشورات هو النصب والاحتيال على العمال، واستغلال ضائقتهم الاقتصادية في فترة الحرب.

المخاطر اليومية

قرر العامل “م. م.” من قضاء رام الله المخاطرة بحياته والتوجه إلى سوق العمل الإسرائيلي بعد أن فقد وظيفته كعامل في أحد المطاعم بسبب تراجع الأحوال الاقتصادية في الضفة الغربية.

ورغم أن العامل (م. م.) لم يعمل سابقا في الداخل المحتل، إلا أن ظروف الحياة أجبرته على التوجه هناك في ظل تراجع سوق العمل في الضفة خلال العامين الماضيين، وهو حال آلاف العمال الفلسطينيين.

وهبة بدارنة، المستشار القانوني لنقابة العمال العرب في الناصرة، وجّه رسالة للعمال الفلسطينيين مفادها أنه عليهم الانتظار قليلا، فالمحادثات مع الشركات والنقابات الإسرائيلية والجهات الرسمية ستفضي في مرحلة ما بعودة العمال بشكل تدريجي.

ووصف بدارنة واقع العمال بأنه “مرتبط بالإشاعات، فهم في وضع مأساوي، العمال متعلقون بالأمل، ولكنه لا يمكن لهم الحياة على الإشاعات، وهو ما يضطرهم للمخاطرة والدخول غير القانوني”.

وردا على سؤال من يحدد مستقبل العمال في العلاقة بين الضفة والداخل المحتل، شدد على أن “كل شيء مرتبط بالوضع السياسي والأمني. ما حدث بعد السابع من أكتوبر هو أن دولة الاحتلال سحبت تصاريح 125 ألف عامل، من بينهم نحو 18 ألف عامل من قطاع غزة، معظمهم في قطاع البناء والزراعة، إلى جانب قسم منهم في قطاع السياحة والفنادق”.

الاحتلال سحب تصاريح 125 ألف عامل، من بينهم نحو 18 ألف عامل من قطاع غزة، معظمهم في قطاع البناء والزراعة، إلى جانب قسم في قطاع السياحة والفنادق

ووصف بدارنة الظروف التي ترتب عليها سياسات الاحتلال قائلاً: “لقد قادت الظروف إلى أن تحولت الضفة إلى سجن كبير للعمال، من دون أي مبالغة في هذا التوصيف، وهو أمر أدى إلى أن أصبحت المخيمات والقرى الفلسطينية على حافة انهيار اقتصادي كبير”.

وأضاف أن الموضوع الذي تعيشه الضفة أكبر من قضية عمال، بل هناك مخطط كبير للضفة الغربية وسكانها يقوم على الحصار والتهجير، والعمال جزء من ذلك. وأكد أن إسرائيل ما زالت ذاهبة لمخطط كبير ضد العمال، وتريد قطع العلاقة من خلال عملية الاستبدال.

وعقب على إشاعات عودة العمال قائلاً: “الموضوع معلق بالجهات الأمنية، فكي يعود العمال يجب على المجلس الوزاري المصغر الأمني والسياسي أن يقرر ذلك، وهذا أولا. أما ثانيا، فيجب على وزارة الداخلية الإسرائيلية، التي فيها قسم خاص بالعمال الأجانب، منح التصاريح، وثالثا، في حال منحت الداخلية التصاريح، فإن الأمر يمر من بوابة المنسق الذي يمنح تصاريح الدخول، ومن ثم ينتقل الأمر إلى اتحاد المقاولين في إسرائيل، الذي يضم شركات البناء ويشغل غالبية العمال الفلسطينيين”.

ويرى بدارنة أن إسرائيل تواجه صعوبات كبيرة قد تضطرها مستقبلاً إلى الاعتماد على العمال، ليس بدافع محبتها لهم أو حرصها على مصالحهم، بل نتيجة لضغوط تمارسها جهات متعددة، أبرزها اتحاد المقاولين في قطاع البناء والترميم. الاتحاد يعاني من نقص يقارب عشرين ألف عامل، بعد أن سبق له استقدام نحو 750 عاملاً من الهند ومالدوفا، وثبت أن معظمهم يفتقر للكفاءات والمهارات المطلوبة، مما أدى إلى فشل العملية.

وأضاف بدارنة أن أكبر التحديات في إسرائيل تتركز في قطاع البناء، الذي كان يعتمد بشكل رئيسي على العمال الفلسطينيين، ومع توقف قدومهم تعرض القطاع لشلل كامل. ووصف العلاقة بين اتحاد المقاولين والحكومة الإسرائيلية بأنها “حرب حقيقية”، مشيراً إلى أن الاتحاد يطالب بعودة العمال لمواجهة الانهيار الكبير الذي يعيشه هذا القطاع.

اللجوء إلى العمل غير القانوني

أمام الظروف الصعبة في الضفة الغربية، يضطر آلاف العمال إلى اللجوء لطرق خطرة بهدف التسلل والعمل بشكل غير قانوني. واعتبر بدارنة أن جزءا من عمليات التهريب يتم بتنسيق مع المقاولين وأصحاب الأعمال، الذين ينتظرون العمال الفلسطينيين عند فتحات الجدار.

وأضاف: “أصحاب المخابز والمطاعم في تل أبيب وفي مناطق أخرى لا يمكنهم الاستمرار في تقديم خدماتهم دون العمال الفلسطينيين، بسبب المهارة والكفاءة والخبرة وإتقان اللغة العبرية”.

وتشير إحصاءات إسرائيلية، من بينها بيانات الشرطة، إلى أن نحو 52 ألف عامل يعملون في البلاد من دون تصاريح، قادمين من الناصرة والجليل والمثلث والنقب وإيلات. وقد قدم جهاز الشاباك والمخابرات توصيات للحكومة الإسرائيلية بالسماح بدخول العمال الفلسطينيين، إلا أن هذه التوصيات لم تُترجم إلى قرارات رسمية.

الواقع الاقتصادي في الضفة يعاني من شلل كامل ومأساوي نتيجة منع العمال من الدخول، ومنع الفلسطينيين في الداخل المحتل من الوصول إلى الضفة

وأوضح النقابي بدارنة أن الواقع الاقتصادي في الضفة يعاني من شلل كامل ومأساوي نتيجة منع العمال من الدخول، ومنع الفلسطينيين في الداخل المحتل من الوصول إلى الضفة. وأضاف: “هناك عمال ينامون في الجبال أو داخل ورش العمل، وتحدث اعتقالات يومية، لكنها لن تمنع دخول العمال، إذ يسعون للبحث عن لقمة العيش وإعالة أسرهم والعيش بكرامة. هذا يدفعهم للقفز فوق الجدار، ما يعرضهم لخطر الموت أو الإصابة أو الاعتقال”.

واختتم بدارنة بالقول إن الوضع القائم لا يحتاج فقط إلى نقاش إدخال العمال، بل هناك عنوان عريض يفرض ضرورة وجود حل سياسي، في مقابل توجه اليمين المتطرف الذي يسير باتجاه حرب وتهجير وإبادة وكل المسميات الصعبة.

وأعلنت سلطات الاحتلال مؤخرا عن تدشين سجنين مركزيين، الأول بين حيفا والناصرة والثاني بين رام الله والقدس، وهما سجنان مخصصان للعمال، ويعتبران جزءا من الحرب المعلنة على العمال الذين يُنظر إليهم على أنهم الحلقة الأضعف وجزء من الحرب على الفلسطينيين بشكل عام.

الدور النقابي

من جانبه، يرى شاهر سعد، الأمين العام للاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين، أنه “لا بديل بعد سنتين من العقاب الجماعي سوى عودة العمال إلى أماكن عملهم”. وأوضح أن العمال الفلسطينيين الذين عملوا في إسرائيل قبل السابع من أكتوبر لم يكونوا مخيرين، بل مجبرين على العمل، مضيفًا أن سياسة الاحتلال منذ عام 1967 وحتى ما قبل الحرب كانت تستوعب نحو 20–25% من العمال في الضفة الغربية وقطاع غزة.

وأشار سعد إلى أن الاقتصاد الفلسطيني كان مزدهرا قبل الحرب على غزة، ويرجع جزء من ذلك إلى العمالة في الداخل المحتل، حيث كانت هذه العمالة تدر نحو مليار و350 مليون شيقل شهريا. وشدد على أن العودة الفورية للعمال هي الحل على المدى القصير والمتوسط، أما على المدى الطويل فتتطلب سياسات وبدائل معقدة في ظل الظروف الحالية. ووصف ما تقوم به إسرائيل بمنع العمل عن 235 ألف عامل فلسطيني بأنه “جريمة حرب متكاملة”، مع العلم أن هؤلاء يعيشون منذ نحو 24 شهرا دون دخل.

نحو 52 ألف عامل يعملون في إسرائيل من دون تصاريح، بينما اعتقلت سلطات الاحتلال نحو 32 ألف عامل خلال العامين الماضيين

وأوضح أن نحو 52 ألف عامل يعملون في إسرائيل من دون تصاريح، بينما اعتقلت سلطات الاحتلال نحو 32 ألف عامل خلال العامين الماضيين، ما عرضهم لانتهاكات متعددة، بما في ذلك العمل لساعات طويلة، الاحتيال، العيش في ظروف غير إنسانية، ودفع غرامات مرتفعة جدًا. وأكد أن هذا الواقع يدفع مزيدًا من العمال إلى العمل بشكل غير قانوني، بما يخدم مصالح المشغلين الإسرائيليين والحكومة الاحتلالية في ظل غياب أي تبعات قانونية أو مالية.

وحول دور الحكومة الفلسطينية في حماية العمال وتوفير بدائل، أشار سعد إلى أن الظروف الراهنة صعبة للغاية، ما يجعل الحكومة “عاجزة عن تقديم أي شيء للعمال”. وأضاف: “هناك برامج وخطط ومشاريع لكنها تغطي نحو 7% فقط من حجم العمالة، فما بالنا بالبقية؟”. وأظهرت أرقام دائرة الإحصاء الفلسطيني أن حجم البطالة بلغ نحو 550 ألف عامل، ما يعكس استفحال البطالة وما يترتب عليها من أزمات اجتماعية واقتصادية.

وسجل عام 2024 استشهاد نحو 24 عاملاً، بينما شهد عام 2025 حتى الآن استشهاد نحو 40 عاملاً.

تحليل اقتصادي وسياسي

وأشار الباحث الاقتصادي عصمت قزماز، من معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني – ماس، إلى أن الوضع بعد السابع من أكتوبر 2023 تغير جذريًا مقارنة بما قبله، وأن النظرة الإسرائيلية للعلاقة مع الفلسطينيين لم تعد كما كانت. وأوضح أن الأطراف المتطرفة في إسرائيل تفرض مواقفها على الحكومة، بينما هناك جهات أخرى تطالب بعودة العمال تدريجيًا، لكن تأثيرها أقل.

ويرى قزماز أن هناك احتمالا كبيرا لعودة تدريجية أو مشروطة للعمال، في ظل استمرار حاجة إسرائيل للعمال على المدى القريب والمتوسط. وقسم العمال في الضفة الغربية إلى ثلاث فئات: العاطلون تمامًا منذ عامين، العمال الذين وجدوا فرص عمل محدودة داخل الضفة، والعمال الذين أنشأوا مشاريع صغيرة مثل البسطات والعربات والمهن البسيطة.

وأوضح أن صعوبات العمال تراكمت بسبب العجز المالي للحكومة والأزمة المتعلقة باحتجاز أموال المقاصة، ما أدى إلى تعطيل الخطط الحكومية وتفاقم الوضع الاقتصادي للأسر الفلسطينية. واختتم قزماز بالقول: “أكثر من نصف العمال ما زالوا عاطلين منذ عامين، وحاولوا التكيف بطرق سلبية مثل بيع الأصول، الاقتراض، أو صرف المدخرات، لكن ذلك لم يحل المشكلة، بل زاد من تدهور الوضع الاقتصادي وتحملت الأسر أعباء أكبر”.