فوز ممداني… هزيمة مدوّية لإسرائيل ونكسة لتحالف المال والنفوذ في نيويورك

5 نوفمبر 2025آخر تحديث :
فوز ممداني… هزيمة مدوّية لإسرائيل ونكسة لتحالف المال والنفوذ في نيويورك

فاز زهران ممداني، البالغ من العمر 34 عامًا، المهاجر المسلم من يوغندا لأبوين هنديين، والمتزوج من العربية السورية راما دواجي، وهو سياسي تقدّمي وعضو في الاشتراكيين الديمقراطيين في أميركا، في سباق رئاسة بلدية مدينة نيويورك، متغلبًا على الحاكم السابق أندرو كومو (الذي خاض الانتخابات كمستقل) وعلى الجمهوري كيرتس سليا (بنسبة 51% ، مقابل 41% لكومو وأقل من 8% لسليا).

وبحسب الجرد الأولي، صوت أكثر من 30% من الناخبين اليهود لصالح ممداني، ما أرسل هزة أرضية في التيار التقليدي المناصر لإسرائيل.

واستندت حملته الانتخابية إلى دعمه للقضية الفلسطينية وتأييده لمقاطعة إسرائيل، وإدانته حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، وإلى وعود تقدّمية جريئة جدًا، مثل تجميد الإيجارات، وتوفير المواصلات العامة مجانًا، وزيادة الضرائب على الأثرياء، بالإضافة إلى إستراتيجية تعبئة القاعدة الشعبية والشباب.

ويُعد فوزه حدثًا تاريخيًا من عدة جوانب، إذ سيكون أول رئيس بلدية مسلم، وأول هندي-أميركي، وواحدًا من أصغر من تولّى هذا المنصب في تاريخ المدينة.

لم يكن فوز النائب التقدمي زُهران ممداني في الانتخابات لرئاسة بلدية نيويورك حدثاً انتخابياً عادياً، بل تحوّلاً سياسياً عميقاً في قلب المشهد الأميركي.

ففي مدينة تُعتبر تاريخياً أحد أهم مراكز النفوذ الإسرائيلي واليهودي في العالم، أطاح ممداني، الشاب التقدمي من أصول هندية-أوغندية، بحاكم الولاية السابق أندرو كومو، الذي كان مدعوماً من شبكة واسعة من الممولين والمنظمات الموالية لإسرائيل.

وقد وصفت وسائل إعلام إسرائيلية وأميركية هذا الفوز بأنه “هزيمة إستراتيجية لإسرائيل”، واعتبره المراقبون نقطة تحوّل في علاقة الحزب الديمقراطي باللوبي الإسرائيلي، وفي مكانة المال السياسي داخل الانتخابات الأميركية.

 كسر أحد أهم التابوهات السياسية في أمريكا

منذ عقود، كان دعم إسرائيل شرطاً ضمنياً لأي سياسي يسعى للصعود في نيويورك. غير أن ممداني تحدّى هذه القاعدة بخطاب جريء ركّز فيه على الدفاع عن حقوق الفلسطينيين، وانتقد علناً السياسات الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية، ووصفها بأنها “سياسات فصل عنصري ممنهجة”.

كما أعلن تأييده الصريح لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات (BDS)، ما اعتُبر في الماضي “انتحاراً سياسياً”، لكنه اليوم أصبح منسجماً مع المزاج التقدمي الجديد بين الشباب الأميركيين.

وبهذا المعنى، مثّل فوزه كسراً لأحد أقوى التابوهات السياسية في الولايات المتحدة، ورسالة بأن انتقاد إسرائيل لم يعد نهاية المسار السياسي، بل ربما بدايته.

المال السياسي في مواجهة التعبئة الشعبية

عشية الانتخابات، شهدت نيويورك واحدة من أكثر الحملات تمويلاً في تاريخها المحلي.

فقد تدفّقت عشرات الملايين من الدولارات من نخبة المليارديرات والممولين المعروفين بولائهم لإسرائيل وبعلاقاتهم الوطيدة بالحزب الديمقراطي التقليدي، في محاولة يائسة لوقف صعود ممداني.

ووفق تقارير إعلامية أميركية (من AP وThe Guardian وAl Jazeera English)، بلغ حجم الإنفاق في الأيام الخمسة الأخيرة من الحملة أكثر من 25 مليون دولار على إعلانات تلفزيونية ورقمية وهجمات سياسية مضادة.

ومن أبرز الممولين الذين شاركوا في هذا “الاندفاع المالي الأخير”: هايم صابان، الملياردير الإسرائيلي المصري الأصل، والمعروف بدعمه الثابت لإسرائيل، والذي موّل حملات ضد ممداني بدعوى “مواجهة التطرف المعادي لإسرائيل”؛ بروس رايتنر، قطب العقارات في نيويورك، الذي أنفق أكثر من مليون دولار لدعم كومو عبر لجنة العمل السياسي “نيويورك من أجل الاستقرار”؛ مجموعة من رجال المال المرتبطين بشركة Blackstone (أحد واجهات اللوبي الإسرائيلي) ومؤسسات استثمارية أخرى موالية لسياسات السوق، شاركوا في تمويل حملة إعلامية ضخمة لإضعاف المرشح التقدمي. وانضم إليهم في الأيام الأخيرة، إلون ماسك أغنى رجل في العالم.

لكن المفارقة كانت صادمة

فكل هذا الإنفاق لم ينجح في تغيير اتجاه الرأي العام. إذ أظهرت الحملة الشعبية لممداني، القائمة على المتطوعين والتنظيم الميداني ووسائل التواصل الاجتماعي، تفوق التعبئة الشعبية على المال السياسي.

لقد انتصر ممداني بالشارع لا بالشيكات، في مشهد وصفه أحد المحللين بأنه “أكبر هزيمة رمزية للمال السياسي في نيويورك منذ نصف قرن”.

حملة الإسلاموفوبيا: الوجه الخفي للمعركة الانتخابية

إلى جانب الأموال الضخمة التي تدفّقت لإسقاط ممداني، شهدت الأيام الأخيرة قبل الاقتراع موجة واسعة من التحريض المعادي للمسلمين، سواء في وسائل الإعلام المحلية أو على المنصات الرقمية.

فقد تعرّض ممداني لسلسلة من الهجمات التي حاولت تصويره كـ”خطر أمني” أو “مرشح متعاطف مع الإرهاب”، مستندة إلى خلفيته الدينية وانتمائه الإسلامي.

انتشرت عناوين ومقاطع دعائية تشير ضمنياً إلى أنه “لا يمكن الوثوق بمسلم في منصب عمدة نيويورك”، فيما استخدمت بعض الصفحات المدعومة إعلانياً لغة تعبّر عن خوف ممنهج من الإسلام (إسلاموفوبيا)، تهدف إلى إثارة الفزع لدى الناخبين البيض والمحافظين.

لكن المفارقة أن هذه الحملة جاءت بنتائج عكسية، إذ اعتبرها كثير من الناخبين الشباب والأقليات تعبيراً عن عنصرية النظام السياسي القديم، مما زاد من موجة التضامن الشعبي مع ممداني.

وقد وصف أحد المراقبين هذا المشهد بقوله: “لقد حاولوا إسقاطه بدينه، فنهض الناس دفاعاً عن قيمهم المدنية، لا عن رجل مسلم فحسب”.

هذه الهجمة الإسلاموفوبية كشفت عن تزاوج خطير بين المال السياسي والخوف الثقافي، لكنها في النهاية أبرزت الوجه المتغيّر لأمريكا: بلداً بدأ يرفض خطاب الكراهية ويكافئ الشجاعة الأخلاقية

انهيار نفوذ اللوبي المؤيد لإسرائيل

جاء فشل تلك الجهود بمثابة صفعة قوية للوبي المؤيد لإسرائيل، الذي اعتاد أن يحسم المعارك الانتخابية عبر التمويل والدعم الإعلامي.

ففي مواجهة ممداني، لم تُجدِ بيانات الاتهام بـ”التعاطف مع حماس” أو “التحريض ضد اليهود” أو مقارنته بأسامة بن لادن وتحميله مسؤولية هجمات 11 أيلول، نفعاً. بل على العكس، ساهمت في زيادة شعبيته بين الناخبين الشباب واليساريين الذين رأوا فيها محاولة لإسكات الأصوات الحرة.

هذا الفشل كشف عن تراجع فعالية اللوبي الإسرائيلي في البيئة السياسية الجديدة، حيث لم يعد الولاء لإسرائيل معياراً حاسماً كما كان في العقود السابقة.

رمزية نيويورك وانعكاساتها على السياسة الأميركية

تكمن أهمية فوز ممداني في أنه حدث في نيويورك، المدينة التي تمثل معقلاً تاريخياً للجالية اليهودية الأميركية ومركز نفوذ سياسي وإعلامي ضخم لإسرائيل.

أن ينتصر مرشح مؤيد لحقوق الفلسطينيين في مثل هذا السياق يعني أن التحوّل في المزاج الأميركي بلغ مرحلة النضج السياسي.

ومن المرجّح أن يؤثر ذلك على النقاش الداخلي داخل الحزب الديمقراطي في واشنطن، وخصوصاً بين أعضائه الشباب الذين يدفعون نحو ربط المساعدات العسكرية لإسرائيل بمعايير حقوق الإنسان.

وبالنسبة لإسرائيل، فإن هذه النتيجة تمثل بداية تآكل “الإجماع الأمريكي التقليدي” حول دعمها غير المشروط، وهو تطوّر استراتيجي يثير قلقاً عميقاً في تل أبيب.

انقسام داخل الجالية اليهودية الأميركية

أحدثت نتائج الانتخابات صدمة داخل الجالية اليهودية في نيويورك. فبينما عبّرت منظمات مثل “رابطة مكافحة التشهير” (ADL)، أحد أهم ركائز اللوبي الإسرائيلي، عن قلقها من صعود “الخطاب المعادي لإسرائيل”، رحّب ناشطون يهود تقدميون بفوز ممداني، معتبرين أنه إحياء للقيم اليهودية في العدالة والحرية.

هذا الانقسام يعكس تحولاً اجتماعياً أعمق، حيث لم تعد إسرائيل قادرة على احتكار التمثيل السياسي لليهود الأمريكيين كما في السابق.

إن فوز ظُهران ممداني لا يمكن قراءته كمجرد انتصار انتخابي محلي، بل كمؤشر على بداية تراجع النفوذ الإسرائيلي داخل المشهد السياسي الأمريكي، وبداية انتقال مركز الثقل نحو جيل جديد يضع العدالة وحقوق الإنسان فوق اعتبارات التحالفات التقليدية.

لقد أنفق المليارديرات عشرات الملايين لإسقاطه، لكن صناديق الاقتراع قالت شيئاً آخر: إن المال قد يشتري الإعلانات، لكنه لا يشتري الضمير الشعبي.

ومع هذا الفوز، يبدأ فصل جديد من السياسة الأميركية، حيث لم تعد إسرائيل “القضية المقدسة” داخل الحزب الديمقراطي، بل موضوعاً مفتوحاً للنقاش والمساءلة — وربما للمراجعة الجذرية في السنوات المقبلة.