برحيل القائد الثوري الماركسي الجنرال نجوين جياب قاهر الفرنسيين والأمريكان،يكون كل احرار وثوار ومناضلي السلم والتقدم والثورة والحرية والعدالة في العالم أجمع،قد خسروا وفقدوا قائداً مناضلاً ثورياً،صلباً وعنيداً شكل حالة استثنائية في تاريخ نضال الشعوب ضد قوى الاستعمار والظلم والطغيان والإمبريالية العالمية الى جانب رفيق دربه وقائده الثوري الكبير “هوشي منه” حيث شغل وزير الدفاع الفيتنامي في حكومته.
لم يكن القائد الكبير نجوين جياب كما هو حال أي قائد عسكري آخر،فالقائد العسكري قد يقود معركة او حرباً ويحقق فيها انتصاراً،ولكن الجنرال جياب،كما هو حال الرفيق القائد الأممي ارنستو جيفارا،كان مدرسةً في النضال وحرب الشعب،وأثبت كما أثبت سماحة الشيخ حسن نصرالله سيد المقاومة في زمننا وعهدنا هذا،بأن من يمتلك الإرادة ووضوح الهدف والعارف لوجهة بوصلته،لن يهزم أبداً،وكم من فئة قليلة هزمت فئة كبيرة، فئة مؤمنة بحتمية انتصارها وثابتة على مبادئها،ومصممة على نيل حريتها وإستقلالها مهما غلى الثمن وعلت التضحيات.
نحن ندرك بأن الجنرال الراحل كان رمزاً ومثالاً وقدوة في النضال والثورة للكثير من الأجيال الثورية وقوى التحرر في العالم،وثورتنا الفلسطينية بكل ألوان طيفها السياسي،وخصوصاً اليسارية منها،كان الجنرال والقائد الثوري الكبير جياب ورفيق دربه المعلم والقائد الكبير هوشي منه،من أبرز والمع الرموز والقادة الثوريين في العالم،الذين إنكبينا على دراسة فكرهم ونظرياتهم في حرب الشعب وحرب العصابات، تعلمنا منهم كيف لحركة ثورية أو حزب ثوري في بلد فقير بموارده،غني بكرامته وإرادته ومؤمنا بحتمية إنتصاره،أن يصنع نصراً كبيراً،رغم كل الإختلال الكبير في موازين القوى على أعتى قوى الظلم والإستغلال في العالم،فالثورة الفيتنامية وحزب الشعب الذي كان عمودها الفقري،بقيادة الجنرالين الكبيرين هوشي منه وجياب حققت انتصارين تاريخيين،على أكبر وأشرس قوتين استعماريتين في العالم،حيث منيتا بهزائم ساحقة أمام قوى الثورة،رغم تفوقها بالعدد والعدة وأحدث انواع السلاح.
الإنتصار التاريخي الأول تحقق على الإستعمار الفرنسي،وكانت هزيمته في معركة ديان بيان فيو عام 1954،حاسمة في نيل شعب فيتنام لحريته وإستقلاله.اما الإنتصار التاريخي الثاني فقد تحقق على الإمبريالية الأمريكية،تلك الإمبريالية التي قسمت الجغرافيا والشعب الفيتنامي الى شمالي وجنوبي،حيث خاضت قوى الثورة الفيتنامية وبقيادة هذين القائدين،اشرس المعارك ضد تلك الإمبريالية التي اوجدت حكومة فيتنامية جنوبية من صنائعها وعملائها ،وكانت معركة التحرير والتوحيد الحاسمة لشعب وجغرافيا فيتنام،معركة العاصمة الجنوبية سايغون عام 1975 ، حيث شاهد العالم بأم العين فرار الجنود والدبلوماسيين الأمريكيين من حصنهم الحصين في السفارة الأمريكية،وكر الجاسوسية والتآمر.
لقد شكلت الإنتصارات الفيتنامية ملهماً ومثالاً لكل من كانوا يناضلون من أجل حرية اوطانهم وبلدانهم من الإستعمار،وأصبحت تجارب جياب وكتبه وتعاليمه في فنون الثورة وحرب العصابات والغوار،تدرس كنظريات وتعمم كتجارب على كل ثوار العالم،جياب وهوشي منه علموا الشعوب،رغم كل الدمار والخراب والجوع الذي لحق بالفيتناميين من قبل الإمبريالية الأمريكية،والتي استخدمت ضدهم الأسلحة المحرمة دولياً وحرقت محاصيلهم وكل مصادر رزقهم،لحملهم على الخنوع والخضوع،بأن العزة والكرامة والإرادة والتصميم على الحرية،أقوى من كل ذلك،علموا الشعوب وحركات التحرر والثوار والمناضلين،بأن الشعوب إذا ما كان لديها قيادة ملتحمة بهمومها ومتوحدة معهم في الميادين،فهي قادرة على إلحاق الهزيمة بالمستعمر والمحتل،مهما كانت قوته وجبروته.
نعم تعلموا منه كيف توحّد الشعوب أوطانها وهي تحرّر أرضها، وكيف تحرّر الأرض وتوحّد الأوطان.
لقد استلهمت الثورات العربية المثل والتجربة من الثورة الفيتنامية،بل لا نبالغ اذا ما قلنا بأنها كانت البروفا نحو الهزيمة النهائية للمشروع الإستعماري الفرنسي والبريطاني في المنطقة العربية،فالجزائر التي كان يراهن المحتل الفرنسي على “فرنستها” وجعلها قطعة او ولاية فرنسية،ثورتها الجماهيرية والمسلحة التي إنطلقت في 1/11/1954،وبدعم وإسناد عربي وأممي،أستطاعت ان تمرغ أنف المحتل الفرنسي في التراب،وتضطره للجلاء عن الجزائر لتنال استقلالها وحريتها،وهذا الإستلهام والنقل للتجربة ليس بالمعنى الميكانيكي طبعا،لم يكن قصراً على الثورة الجزائرية،بل الثورة الفلسطينية وكذلك ثورة الإستقلال في اليمن،كانت هي الأخرى تأخذ الدروس والعبر وتنقل التجارب والخبرات،وتستمد الإرادة والعزيمة والتصميم من هؤلاء القادة الثوريين.
جياب وهوشي منه وغيرهما من القادة الثوريين من أمثال الشيخ حسن نصرالله،لم يفقدوا البوصلة،وكان لديهم وضوح في الرؤيا والهدف والإستراتيجية،ولذلك هم كانت أولويات صراعهم،نحو العدو المحتل لوطنهم اولاً،نحو تحرير اوطانهم،وكان لديهم وحدة حقيقة لكل القوى الثورية والمناضلة،وليس كما هو حال ثورتنا الفلسطينية،ولم يكن الجنرال جياب يعاني من مرض تضخيم الذات او الإستعراض وحب الظهور و”الفذلكة” وهنا أنقل لكم مثالاً هاماً على ذلك فقد نقل زوار فيتنام من الثوار العرب على لسان جياب قوله لهم حين سألوه عن خبراته في الحروب الثورية: من لديه عبد الكريم الخطابي في المغرب، لا يحتاج إلى من يعلمه فنون الثورة والقتال، فالخطابي، والقول لجياب، كان أستاذي ومعلمي الأشهر، وكذلك عدد من قادة الكفاح في بلادكم العربية.
الجنرال جياب وكذلك الرئيس الجنوب افريقي السابق نلسون مانديلا،حققوا الإنتصارات والحرية لشعوبهم وبلدانهم،ولكنهم لم يطلبوا من شعوبهم أن تقدسهم،أو ان تبقى صورهم وإنجازاتهم تتصدر الصحف والمجلات ووسائل الإعلام ليل نهار،كحال الزعامات العربية “المخصية” المتربعة على صدور شعوبها،دون أي إنجاز جدي وحقيقي والمستدخلة للهزائم على انها إنتصارات،وتطلب من الشعب ان يؤلهها يطبل ويزمر ويحتفل بها بمناسبة او دون مناسبة.
نعم هؤلاء القادة العظام حققوا إنتصارات كبرى،ولكنهم كانوا زاهدين في الحياة،إنسحبوا وابتعدوا عن الأضواء وعاشوا عيشة طبيعية،ولكن أفعالهم واعمالهم ومآثرهم وبطولاتهم تبقى تتداولها وتتناقلها الشعوب من جيل لجيل،ويبقون هم أحياء في ضمائر شعوبهم الوفيّة لذكراهم، فأكّدوا بذلك أن الثوريين لا يموتوا بل يتجددون باستمرار عبر كفاح شعوبهم.