بقلم العميد: أحمد عيسى
المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي
خلافاً للخطاب الإعلامي الذي رافق زيارة رئيس الوزراء بينت الأولى للبيت الأبيض، بأن جدول أعمال اللقاء له مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، لم يتضمن بنداً خاصاً بالعلاقات الفلسطينية الإسرائيلية التي شهدت في فترة تولي الرئيس السابق دونالد ترامب توتراً غير مسبوق نتيجة لمحاولته بالإتفاق مع رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو فرض الإستسلام على الفلسطينيين من خلال مبادرته المعروفة بصفقة القرن، إلا أن جوهر ما تناوله اللقاء وما سبقه من لقاءات بين رئيس الوزراء بينت وأركان الإدارة الأمريكية قد دار بلا شك حول مستقبل إسرائيل في المنطقة بعد الإنسحاب الأمريكي الذي بدأ تنفيذه إبتداء من إفغانستان بعد إحتلال دام لعقدين من الزمن تقريباً.
فأصغر الإسرائيليين والفلسطينيين وكذلك الأمريكيين سناً يدرك أن مستقبل وجود إسرائيل في المنطقة منوط أكثر من أي شيئ آخر بمعالجة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، الأمر الذي يعني أن ليس بمقدور بايدن وبينت تجاهل أو إنكار هذا الصراع، مما يؤكد وفقاً لمنطق التحليل أن موضوع الصراع كان يقيناً هو الموضوع المهيمن على النقاشات التي دارت في كل اللقاءات، وسيكون بلا شك هو الموضوع الذي سيهيمن على النقاشات التي ستجريها الفرق الفنية التي جرى توافق الطرفين على تشكيلها لبحث مكانة إسرائيل في المنطقة بعد إنسحاب أمريكا منها، ودورها في التحالف الليبرالي ضد الصين وروسيا الذي شرع بايدن في تشكيله منذ الإعلان عن إسراتيجيته للأمن القومي في شهر مارس/أذار الماضي من العام الجاري.
تجدر الإشارة هنا أن التساؤل حول أمن إسرائيل ومستقبل وجودها في المنطقة بعد إنسحاب أمريكا منها، تجري منذ فترة طويلة في الأوساط الإسرائيلية، سواء الأوساط السياسية والأمنية والأكاديمية، أو بين الحكومة الإسرائيلية والإدارات الأمريكية المتعاقبة.
إلا أن الفشل الأمريكي في إعادة إنتاج شعوب المنطقة، لا سيما في أفغانستان والعراق وفلسطين على اسس جديدة تقبل من خلالها هذه الشعوب وجود إسرائيل كدولة يهودية طبيعية في المنطقة، وفقاً لتصريحات الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن العام 2001، فيما يخص أفغانستان والعراق، وتصريحات الجنرال دايتون أمام الكونجرس الأمريكي العام 2009، فيما يخص الفلسطيني الجديد، قد أعاد التساؤل حول مستقبل وجود إسرائيل في المنطقة إلى جدول أعمال الجدل والسجال السياسي اليومي في الأوساط الإسرائيلية.
وقد تجلى هذا الفشل في أوضح صوره ومعانيه في سرعة إنهيار الجيش ونظام الحكم الأفغاني وسيطرة طالبان على كل محافظات أفغانستان بإستثناء منطقة مطار كابل العاصمة الذي سيبقى تحت سيطرة القوات الأمريكية حتى إتمام الإنسحاب في نهاية الشهر الجاري وفقاً لإعلان واشنطن الرسمي، وذلك على الرغم من التفجير الضخم الذي إستهدف منطقة المطار وأدى إلى مقتل عشرات الأفراد كان من بينهم 12 جنديا أمريكيا والذي أعلن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش خراسان) مسؤوليته عنه يوم الخميس الموافق 26/8/2021، مما أدى إلى تأجيل اللقاء الذي كان مخططاً بين بايدن وبينت لليوم التالي.
في الواقع يعكس القرار الأمريكي بالإنسحاب من المنطقة إختلافاً جوهرياً في إستراتيجيات الأمن القومي للدولتين، حيث لم تعد إستراتيجية (مكافحة الإرهاب) الأولوية الأولى في إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي، إذ حلت مكانها إستراتيجية إدارة التنافس مع القوى العظمى الصاعدة كالصين وروسيا وفقاً لإستراتيجيات الأمن القومي المعلنة للإدارات الأمريكية الثلاث الأخيرة، في حين ظلت كذلك بالنسبة لإسرائيل، الأمر الذي يخل بالإعتماد على قوة راعية عظمي كأحد الركائز التي قامت عليها عقيدة الأمن القومي الإسرائيلي منذ الإعلان عن قيامها العام 1948، وكنتيجة لذلك ضعفت قدرة إسرائيل على موائمة إستراتيجياتها مع إستراتيجية القوة العظمى التي هيمنت على المنطقة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
والأهم من ذلك أن الحكومة الإسرائيلية والمؤسسة العسكرية قد اصبحتا مطالبتين هذه الأيام أكثر من اي وقت مضى بتوفير إجابات مقنعة لمواطني الدولة حول السؤال الذي رافقهم منذ أكثر من سبعة عقود والذي يدور حول: هل دولة إسرائيل قادرة على حماية وجودها وتوفير الأمن لمواطنيها بعيداً عن الدعم والتأييد والحماية الأمريكية؟
اللافت هنا أن الخروج الأمريكي من المنطقة بعد ثبوت فشلها في تحقيق ما أعلنته من غايات وقاصد، يتزامن مع الإرتفاع الملحوظ والمتزايد في نسبة من يعتبرون إسرائيل دولة فصل عنصري أبارتايد في المجتمع الأمريكي خاصة من المواطنين اليهود الشباب الذين بلغت نسبتهم وفقاً لإستطلاع راي نفذ في أواسط شهر تموز الماضي من قبل معهد الناخبين اليهودي للإستطلاع 39%، وأظهرت نتائج هذا الإستطلاع كذلك أن 20% من من الناخبين اليهود يعتقدون أن ليس لإسرائيل الحق بالوجود، ويتزامن كذلك مع بلوغ نسبة المطالبين من الأمريكيين بتقييد تقديم المساعدات العسكرية لإسرائيل بشرط عدم إستخدامها في قمع الفلسطينيين إلى 50% وفقا لنتائج إستطلاع الراي الذي نفذ من قبل مجلس شيكاغو للشؤون الدولية ومعهد إسرائيل للديمقراطية ونشر الأسبوع الماضي من الشهر الجاري، فيما تؤيد الغالبية العظمى من مؤيدي الحزب الديمقراطي هذا المطلب وفقاً لنتائج الإستطلاع ذاته.
وفي محاولتهم فحص مدى ثقة المجتمع اليهودي في إسرائيل بقدرة الدولة على حماية وجودها وحفظ أمنها دون الإعتماد على أمريكا كدولة راعية، وجد معهد إسرائيل لدراسات الأمن القومي أن غالبية مواطني الدولة يؤمنون أن ليس بمقدور إسرائيل حماية أمنها لوحدها دون دعم ومساندة أمريكا وذلك وفقاً لإستطلاعات الرأي الخاصة بمسوح مقياس الأمن القومي التي أجراها المعهد في السنوات الخمس الماضية.
أما في محاولتهم نفسير مدى قدرة إسرائيل على حماية أمنها إعتماداً على قدراتها الذاتية من قبل خبراء الأمن القومي في إسرائيل فتظهر التقارير الصادرة عن المعاهد الإسرائيلية المتخصصة في دراسات الأمن القومي أن هناك إختلافات واسعة بين هذه المعاهد، إذ يرى مركز بيغن السادات للدراسات الإستراتيجية في ورقة صادرة عنه بتاريخ 24/8/2021 أن مصير إسرائيل مرتبط بنتائج التحولات الجارية في المنطقة في إطار التنافس بين القوى العظمى والتي تزداد فيها المؤشرات على ضعف الدور الأمريكي.
ويرى بالمقابل الباحثان (إلداد شابيط و شمعون ستين) من معهد إسرائيل لدراسات الأمن القومي في ورقة نشرت لهم بتاريخ 24/8/2021، أن المهم الآن بالنسبة لإسرائيل هو فحص الرؤية الأمريكية لدور إسرائيل في المنطقة على ضوء إنسحاب القوات الأمريكية.
من جهته يرى مستشار الأمن القومي الأسبق يعقوب عميدرور والباحث في معهد القدس للأمن والإستراتيجية في ورقة نشرها المعهد بتاريخ 18/8/2021، أن الإنسحاب الأمريكي من منطقة الشرق الأوسط وتحول تركيز مواردها نحو الشرق الأقصى لا يضمن أن أمريكا ستنجح في صراعها ضد الصين، لكن هذا الإنسحاب يوفر فرصة تاريخية لدول الشرق الأوسط من حيث أن هذا الإنسحاب ينهي شعور بعض الدول بالإعتماد على أمريكا في معالجة الأزمات خاصة تلك التي مصدرها إيران وتركيا ومنظمات الإرهاب العالمي، الأمر الذي يدفع الدول العربية التي تخشي الهيمنة الإيرانية والتركية للتحالف مع إسرائيل.
قد يبدو للبعض أن التحولات الجارية في المنطقة والعالم تنطوي على تهديدات للفلسطينيين وقضيتهم، لاسيما بعد إنزياح بعض من الدول العربية لصالح الرواية الصهيونية، إلا أن هذا المقالة ترى أن حجم ما تنطوي عليه هذه التحولات من فرص للفلسطينيين ربما يفوق حجم التهديدات.