مقاربة من داخل السجن…
لماذا نجح النضال بجنوب أفريقيا ولم ينجح في فلسطين؟!
بقلم: باسل غطاس*
مقدمة
أتيح لي خلال قراءاتي المتنوعة في السجن تخصيص الكثير من الوقت لقراءة كتابات وأبحاث عن النضال ضد الأبرتهايد في جنوب أفريقيا. ومن أهم قراءاتي كانت كتابي مذكرات أحمد كاثرادا (1929 – 2017)، وهو من زعماء حزب المؤتمر الأفريقي الذي قضى 27 عامًا في سجن روبين أيلاند.
والكتاب الثاني وهو الأهم بتقديري بين كل ما كتب من شهادات ومذكرات قيادات النضال في جنوب أفريقيا. الكتاب باللغة الإنكليزية وأشغلني فعلا طيلة أسبوعين؛ كتاب هام ومليء بالمعلومات المثيرة والجديدة بالنسبة لي، ويحتوي على مذكرات ماك ماهراج، وهو أحد أهم القادة الميدانيين في المؤتمر الوطني الأفريقي في النضال ضد الأبرتهايد. ماك وهو من أصل هندي، شخصية فذة قدت من معدن خاص تفولذ في غرف التعذيب الرهيبة لنظام الفصل العنصري الأبيض، وقد قضى 12 عامًا مع نلسون مانديلا وولتر سوسولو وأحمد كاثرادة ورفاقهم في سجن جزيرة روبين آيلاند، وخرج بعدها ليواصل نضاله من المنفى ومن أرض الوطن، حيث أسس وقاد التنظيم السري المسلح للمؤتمر الوطني الأفريقي، مواجهًا خطر الموت طيلة سنوات طويلة.
أحمد كثرادا ومانديلا
كان ماك ماهراج شيوعيًا بالفطرة منحازًا للعمال والفقراء، وقد كان عضوًا في اللجنة المركزية ولاحقًا في المكتب السياسي في الحزب الشيوعي الجنوب أفريقي، وكان بالإضافة إلى ذلك يمتلك عقلا تحليليًا ناقدًا وصارمًا تجاه كل شيء وشخص بما فيه مانديلا. الكتاب ليس سيرة ذاتية عادية، وإنما هو كتاب أكاديمي يؤرخ لفترة هامة ومصيرية ألفه باراداج أومالي، وهو يشمل مقابلات مطولة مع ماك ماهراج، وكذلك آراء ووجهات نظر جمعها وكتبها أومالي نفسه. وقد أجرى أومالي هذه المقابلات في أوائل التسعينيات بعد أن تحرر مانديلا من سجنه، وألغي حظر المؤتمر الوطني الأفريقي والحزب الشيوعي.
إضافة إلى ذلك، أجرى أومالي تحقيقًا شاملا استمر سنوات في أرشيفات ووثائق تاريخية من تلك الفترة. نقرأ في كل فصل رواية ماك ورؤيته حسب ذاكرته، ونقرأ إلى جانب ذلك ما يكتبه أومالي وتعاطيه مع القضايا التفصيلية والخلافية في كثير من الأحيان، ويلقي الضوء عليها من زوايا أخرى.
لن أستعرض الكتاب هنا بطبيعة الحال، ولكني سأفعل ما لم أقم به حتى الآن وهو التوسع في الكتابة عن قضية ما شغلت تفكيري خلا قراءة الكتاب، وما استخلصته منها بالنسبة لقضيتنا المركزية هنا في فلسطين.
ماهراج ومانديلا
وأول ما يجول في خاطرك كأسير داخل السجن، هو مقارنة استخدام النظامين القمعيين في جنوب أفريقيا وإسرائيل، السجن الجماعي لكوادر حركة النضال ومقاومة نظام القمع، كأداة مركزية في السيطرة على الشعب المقموع وفي إجهاض حركته الوطنية المقاومة.
أول ما استرعى انتباهي هو قلة ما كتبه مهراج عن فترة السجن الطويلة وهي 12 عامًا، ماذا يمكن أن يحدث من أحداث مع مناضل في السجن؟ أية أشياء هامة من الممكن أن يقوم بها خلال فترة السجن الطويلة وتستدعي تذكرها والكتابة عنها؟ فعلا هذا هو السجن وهذه هي أهميته للنظام القامع، فهو “يجمّد” ويقلص إلى أبعد الحدود من تأثير الأسير وقدرته العملية على النضال. طبعًا يوجد جانب مركزي من تحول الأسير، وخاصة في الحالات الاستثنائية مثل حالة مانديلا، إلى رمز يكشف كل مقومات الصراع مع النظام القامع ويتحول إلى عنوان عالمي يوحد ويستثير كل الأحرار في العالم للوقوف مع الشعب المظلوم، لكن في حالة مانديلا المعزول عن شعبه وحزبه لمدة زادت على ربع قرن، لم يستطع من داخل سجنه أن يقوم بالكثير، وكان النضال على الأرض يتم بقيادة الكوادر والخلايا الميدانية واتحادات العمال والنقابات التي قادها الحزب؛ وعندما بدأت بوادر الاتصالات مع الحزب الحاكم في أول محاولة لإجراء مفاوضات سلمية، كانت الاتصالات الأولى مع مانديلا سببًا لإثارة الشكوك والشائعات حتى في أعلى مستويات حزب المؤتمر، من أن “مانديلا يبيع القضية”. ولقد لعب مهراج دورًا مركزيًا في دحض وإثبات زيف وبطلان هذه الشائعات. وأكثر ما لفت انتباهي وأثار دهشتي بل وصدمني، هو اكتشاف ذلك الضعف الكبير والوهن الذي كانت تعاني منه حركة مقاومة الأبرتهايد، وخصوصًا حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، مع بداية المفاوضات مع النظام العنصري؛ ففي حين ازداد زخم النضال الشعبي، وتحديدًا حالة العصيان المدني والإضرابات والفوضى العارمة، التي نجحت في قلب موازين القوى بالتضافر مع حركة المقاطعة الدولية وفرض العقوبات؛ كان النظام قد نجح في ضرب حزب المؤتمر، إذ كانت قياداته مشتتة في المنافي والسجون، وقد بلغ قمع وسيطرة النظام وعنفه إلى درجة مكنته من تجنيد وزرع الجواسيس داخل قيادات حزب المؤتمر، وداخل الأطر الأخرى المرتبطة به على كل المستويات.
تفرض المقارنة نفسها مع حيثيات الصراع مع إسرائيل والصهيونية، ومع أوضاع حركة التحرر الوطني الفلسطيني في مختلف مراحل النضال؛ وأول ما تفرضه هذه المقارنة، هو التأسيس على الفرق الرئيسي والمفهوم ضمنًا، أنه في حين انتصر نضال الحرية في جنوب أفريقيا وتمكن السود من إزالة نظام الفصل العنصري، بقي الشعب الفلسطيني ينوء تحت الاحتلال القمعي الاستيطاني حتى هذه اللحظة.
من الواضح أن الظروف الموضوعية التي عاشتها الأكثرية الأفريقية السوداء في مواجهة الاستعمار العرقي الأبيض، لمدة زادت على 3 قرون، لم تكن أسهل أو أقل تعقيدًا من تلك التي واجهت الشعب الفلسطيني منذ بدأ المشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين. بعد قراءة هذين الكتابين عينيًا، وكتب أخرى في الماضي، يتكوّن الانطباع بأن الظروف الموضوعية أمام السود في جنوب أفريقيا كانت أكثر صعوبة وقسوة وتعقيدًا، ليبرز بقوة السؤال ما هو دور العامل الذاتي في انتصار النضال هناك وفشله هنا؟ ولماذا وكيف انتصر حزب المؤتمر الوطني الأفريقي وحلفاؤه بزعامة مانديلا، بالرغم من كل عوامل الضعف والخلافات الداخلية المعقدة التي عانى منها، فيما فشلت حركة التحرر الوطني الفلسطيني في تحقيق الحرية والاستقلال.
السؤال الأهم، ماذا يمكن أن نتعلم من ذلك، وما هو المطلوب فلسطينيًا إزاء كل الظروف التي يواجها شعبنا في السنوات الأخيرة؟ للإجابة على هذين السؤالين، سأقوم ببعض الإضاءات المشتقة من هذه المقارنة.
أولا: المقاومة الشعبية
بالرغم من دموية النظام الجنوب أفريقي ووحشيته من جهة، وضعف وتشتت حركة التحرر الوطني الجنوب أفريقية، وبشكل خاص حزب المؤتمر؛ فقد اتسعت المقاومة الشعبية المدنية ونمت وتعززت التنظيمات المدنية الشعبية، مثل اتحادات النقابات المختلفة والمجالس والتنظيمات الشعبية على مستوى المدن والأحياء ذات الأكثرية الأفريقية، وتطورت أطر تنسيقية وشبكات لتخطيط وتوجيه النضال. كل ذلك جرى من دون مركزية أو هرمية يفرضها الحزب القائد، وهو المشتت بين السجون والمنافي. الهدف المشترك والواضح، والذي لا لُبس فيه، خلق واقعًا لا يمكن للنظام العنصري التحكم به ((Ungovernable situation. رغم إصرار قيادة حزب المؤتمر على الحفاظ على خيار المقاومة العسكرية وعلى تزويدها بالسلاح والتدريب، ولكن في الواقع والنتيجة لم تلعب هذه المقاومة المسلحة دورًا هامًا في حسم الصراع.
الراحلان عرفات ومانديلا
أين نحن من ذلك؟ لا تزال المقاومة الشعبية السلمية عندنا في مرحلة الشعار ومفتقدة لإستراتيجية واضحة ومثابرة، والوضع الناشئ بعد اتفاقيات أوسلو هو عامل معيق في أحسن الأحوال. لقد فقد الناس الثقة في الفصائل وفي أي إفرازات من اتفاقيات أوسلو. لذا، فهي لا تأخذ بجدية دعوات السلطة الوطنية والفصائل لتكثيف المقاومة الشعبية. لنأخذ مثلا بسيطًا على ذلك: الدعوة لحملة مقاطعة البضائع الإسرائيلية في الأسواق الفلسطينية في مناطق السلطة، التي فشلت فشلا ذريعًا ولا أقصد فقط بالمعنى المادي، وإنما وبالأساس فشل على مستوى الوعي وتجنيد الرأي العام في دعم الصناعة الوطنية، ولمنع الاحتلال من الاستفادة المضاعفة من احتلاله. هذا ينطبق أيضًا على الدعوة إلى الحد من العمالة الفلسطينية في مشاريع البناء في المستوطنات الإسرائيلية.
لا يلام الشعب حين يكون واقعه محكومًا باتفاقية ما يسمى سلام، التي حولت السلطة الوطنية وأجهزتها الأمنية إلى وكيل للاحتلال من خلال التنسيق الأمني؛ ومن جهة أخرى، يحكم هذا الواقع أيضًا الانقسام الفلسطيني بين الفصائل الذي تحول إلى تقسيم جغرافي، وسبب جرحًا عميقًا وخلق هوة كبيرة بين مركبات حركة التحرر الفلسطيني، لم يتم جسرها حتى الآن ولا حتى في ظل الخطر الوجودي الذي يتهددها. لا يمكن أن نتوقع وهذا ما يدركه شعبنا بفطرته، أن تقوم سلطة مرتبطة بالاحتلال وتنسق أمنيًا معه بإطلاق مقاومة شعبية جدية، لأنها بذلك تقضي على وجودها، إذ إن شرط نجاح أي مقاومة شعبية هو حملها لمشروع تحرر وطني يحظى بإجماع الشعب، ومن ثم أن يكون لديها إستراتيجية لمقاومة حقيقية للاحتلال، وهذا لن يحدث من دون إعادة بناء المشروع الوطني، وإلغاء رسمي وعملي لأوسلو وما نتج عنها.
ثانيا: المشروع الوطني
في الحالة الجنوب أفريقية، كان هناك هدف واضح لم تتزحزح عنه قيادات حزب المؤتمر الوطني الأفريقي قيد أنملة، على مدى تاريخ ومراحل النضال، ومهما كانت المصاعب والتعقيدات، ومهما بلغت وحشية ودموية النظام. بقي الهدف واضحًا: إسقاط نظام الأبرتهايد وتحويل جنوب أفريقيا إلى دولة ديمقراطية واحدة غير عنصرية، لكل مواطن فيها حقه المتساوي بالمواطنة. ولم تقبل قيادة الحركة المناهضة للأبرتهايد على مدى تاريخها أية حلول جزئية وأية بدائل، وقد اقترح العديد منها الإبقاء على امتيازات ما للأقلية البيضاء، مثل منحها حق الفيتو في قضايا معينة. فقط بعد الاتفاق على هذا الهدف، أي الإزالة التامة لنظام الأبرتهايد وخضوع “الحزب الوطني” (الأبيض) الحاكم وموافقته على ذلك، قبلت قيادة حزب المؤتمر التفاوض على مرحلة انتقالية. وأنوه هنا بالموقف التاريخي الحازم الذي اتخذه مانديلا بألا يفاوض من سجنه، وأن من يملك حق المفاوضات هي قيادة المؤتمر الوطني الأفريقي. ولم تألُ جهدًا قيادة الحزب الوطني الحاكم ومخابراتها حتى وهي في خضم المفاوضات مع حزب المؤتمر، وبكل الوسائل الممكنة، بالطعن بشرعية تمثيل حزب المؤتمر ومحاولة خلق البدائل والمنافسين له، وإثارة الخلافات في أوساط الأكثرية السوداء واستغلال الخلافات القبلية والجهوية، وصولا لإثارة الحرب الأهلية الدموية عبر تسليح وتدريب حركة إنكاثا (آي. أف. بي).
بالرغم من كل هذه الظروف المعقدة والمؤامرات، استطاعت قيادة حزب المؤتمر بدعم القاعدة الشعبية، وبفضل التنظيمات القاعدية المدنية والنقابية والأهلية، من النجاح في تحقيق الهدف وإزالة نظام الأبرتهايد والتحرر من نيره، وخلق جنوب أفريقيا الحرة والديمقراطية.
في الحالة الفلسطينية مع الأسف، جرى عمليا إفراغ المشروع الوطني من مضمونه وفرطه إلى اتفاقيات مرحلية وإعلان نوايا فضفاض، سمي اتفاقية أوسلو. وقد استبدل الحلم الفلسطيني المتواضع بإقامة دولة مستقلة، ولو على 22 في المئة من تراب فلسطين، وعودة اللاجئين والقدس عاصمة الدولة، استبدل بإقامة سلطة وطنية فاقدة للسيادة، وجرى بموافقة فلسطينية تقسيم المناطق المحتلة إلى مناطق “أ” و”ب” و”جـ”، من دون تحقيق أدنى الشروط للمحافظة على الأقل على الوضع القائم من حيث تغيير طبيعة المناطق المحتلة وتجنيد الاستيطان.
لقد تحولت حركة التحرر الوطني الفلسطيني من مشروع عودة وتحرر إلى مشروع حكم وسلطة تحت الاحتلال، وذلك بموافقة وتأييد وتوقيع قيادة حركة التحرر نفسها. وعندما حاول القائد الفلسطيني الأول، ياسر عرفات، استدراك الوضع والعودة إلى نهج المقاومة خلال الانتفاضة الثانية، اغتيل واستبدل بقيادة استمرت بل وأصبح لها مصلحة باستمرار الوضع القائم، وكان من نتائج هذا الفشل الانقسام الفعلي على مستوى الفصائل وعلى المستوى الجغرافي، ما يشكل ضربة قاسية وشبه قاصمة، فهل من مخرج من هذا المأزق التاريخي؟
ثالثا: التضامن الدولي وعدالة القضية
يعيد الكتابان للأذهان الوضع الدولي الذي سمح لفترة طويلة استمرت عقودًا للنظام العنصري في الإمعان في سن قوانين عنصرية وعرقية، لم يكن لها مثيل في العالم في ذلك الوقت، وقد كان هذا النظام إلى حد بعيد إبنًا شرعيًا للعالم الغربي، وقد ازدادت أهميته واعتباره حليفًا إستراتيجيًا للغرب خلال الحرب الباردة. ولم يجرِ التحول الكبير في الموقف الدولي من نظام الأبرتهايد إلا مع انهيار المعسكر الاشتراكي وانتهاء الحرب الباردة وأقصد هنا التغيير الذي كان في موقف الحكومات الغربية، لكن موقف الشعوب وتضامنها مع نضال الأكثرية السوداء والمطالبة بإطلاق سراح منديلا كانت على أشدها على مدى عقود. وقد أدارت هذه الحكومات ظهرها لشعوبها ولم تهتم لمواقف التضامن الشعبي شبه الإجماعية لدعم نضال السود العادل ضد نظام الأبرتهايد، ولم تتغير إلا مع انتهاء الحرب الباردة. وأذكر هنا مقابلة هامة مع القائد المطران الجنوب أفريقي الأسود، ديزموند توتو، الحائز على جائزة نوبل للسلام. يعيد الأسقف توتو في المقابلة إلى الأذهان معارضة الحكومات الغربية لفكرة فرض العقوبات على النظام العنصري، وكيف أن إدارة ريغن لم تقبل مجرد أن يطرح الموضوع أمامها. المقارنة التي تفرض نفسها أيضًا في السياق الفلسطيني، إذ إن التضامن الدولي مع فلسطين والشعب الفلسطيني، وحملات التضامن الشعبية من أجل تحقيق العدالة في فلسطين في أوجها، ولا تقل زخمًا عن تلك التي كانت في سنوات الثمانيات وأوائل التسعينيات ضد الأبرتهايد، وكذلك على الأصعدة الرسمية، خصوصًا في أوروبا حيث يجري تحولا تمثل بحضور فلسطين عضوًا مراقبًا في الأمم المتحدة، وكذلك باتخاذ قرارات هامة في مجلس الأمن.
هذا يثير الكثير من الأسئلة حول غياب الإستراتيجيات الفلسطينية الواضحة، من أجل تطوير هذا التضامن الدولي وتعميق التغيير في الموقف الرسمي وتبني مطلب فرض العقوبات والمقاطعة على إسرائيل، وتحويلها إلى إستراتيجية عمل. هذا يتطلب مرة أخرى الانسحاب الكامل من اتفاقية أوسلو بكل إسقاطاتها.
رابعا: العامل الذاتي
لم تختلف أوضاع حركة التحرر الوطني الأفريقية عن أوضاع مثيلتها الفلسطينية، عبر كل مراحل النضال. فقد عانت هذه الحركة من كل المصاعب والمصائب والويلات النابعة من علاقات القوة المائلة تمامًا لصالح الاستعمار والنظام القمعي العنصري، وقد تعرضت هذه الحركة لأبشع وسائل القمع والاغتيال والتعذيب والتطهير العرقي من قبل مخابرات نظام الأبرتهايد، الذي نجح في اختراق صفوف هذه الحركة بما فيه قيادات في حزب المؤتمر وفي الحزب الشيوعي، وبقي ظل هذه المرحلة يطغى على الرأي العام بعد التحرر وإسقاط النظام. وقد عانت الحركة بالرغم من كل ذلك من أمراض الانقسامات والمعسكرات، والتي كانت في الكثير من الأحيان نابعة من نزعات شخصية أو قبلية أو إثنية.
لعل أهم ما اكتشفته من مراجعتي للكتابين، وأنا لم أكن دارسًا ولا ملمًا بتاريخ جنوب أفريقيا قبل سقوط نظام الأبرتهايد، هو هذه المفارقة الكبرى، أنه كلما ازدادت وطأة قمع النظام الدموي وتحقيقه لأهدافه في تشتيت وإضعاف حزب المؤتمر الوطني، ازدادت قوة وتشعبت حركات التنظيم المدني المجتمعي، والتي في نهاية المطاف هي التي قادت العصيان المدني ونظمت عمليات مقاومة النظام العنصري لانطلاقها من القاعدة، من دون أي توجيه أو أوامر أو حتى أي علاقة مع قيادات حزب المؤتمر الوطني. وهذا بالتأكيد يذكر بما حدث فلسطينيًا في الانتفاضة الأولى، التي كانت شعبية بامتياز ولم تنتظر أوامر أو مبادرات من فصائل منظمة التحرير.
كانت مهمة مهراج الأولى بعد عودته للعمل السري من الخارج داخل جنوب أفريقيا عام 1988، الاتصال مع القيادات الميدانية لهذه التنظيمات، والتنسيق معها وخلق علاقة تواصل ثابتة بينها وبين قيادة حزب المؤتمر في لوساكا. لقد قاد حزب المؤتمر في الفترة الحاسمة من الخارج، أوليفر تامبو، وهو الذي كان الشخصية المركزية في قيادة النضال، وكانت الصلة مقطوعة بشبه كامل مع مانديلا والقيادات التي كانت في السجن. قبيل إطلاق سراح مانديلا من السجن وصل ضعف حزب المؤتمر إلى أوجه، حيث أن يد القدر قد تدخلت ومرض تامبو، القائد الحزب الفعلي في هذه المرحلة. الرجل الذي كانت كل الخيوط في يديه أصيب بجلطة دماغية أخرجته تمامًا من دائرة العمل والنظام.
بالرغم من كل هذه الظروف، فقد قدمت هذه الحركة التضحيات البطولية وسطرت بأحرف من ذهب أسطورة النضال ضد نظام الأبرتهايد، حتى دحرته وانتصرت عليه.
مرة أخرى تفرض المقارنة نفسها؛ لم تقل حركة التحرر الوطني الفلسطيني عن مثيلتها الجنوب الأفريقية في القدرات النضالية وفي تقديم التضحيات البطولية؛ ومع التشابه الكبير في وسائل القمع ووحشية ودموية النظام الاستعماري في الحالتين، يخيل إلي أن حركة التحرر الوطني الفلسطيني تمتعت خلال فترات طويلة بنقاط قوة أكثر من مثيلتها الأفريقية. استبق القول بأني أدرك التعقيد الخاص للقضية الفلسطينية النابع من خصوصية الحالة الاستعمارية الصهيونية، التي نمت وتطورت برعاية الدول الإمبريالية في الغرب، وكذلك بسبب موضوع المحرقة والنازية وتوظيف هذه الكارثة الإنسانية لصالح المشروع الصهيوني. بالرغم من ذلك كله، فقد كان لحركة التحرر الوطني الفلسطيني نقاط قوة كثيرة، تمثلت في بعدها القومي العربي وانطلاقها منه، وكذلك في البيئة الحاضنة فلسطينيًا في مخيمات اللاجئين وسائر فئات وشرائح الشعب، وكذلك الدعم السياسي والاقتصادي من الشعوب وبعض الحكومات العربية، وكذلك في وجود شرعية دولية رسمية لها، تمثل أولا بالاعتراف بمنظمة التحرير ممثلا شرعيًا وحيدًا للشعب الفلسطيني، وثانيا والأهم هو المشروعية الدولية لقضية الشعب الفلسطيني نفسها، أي قرارات الأمم المتحدة والتي تأسست إسرائيل واعترف بها دوليًا بالاستناد إليها. لذا، فإن مطلب تحقيق العدالة في فلسطين الذي يحظى بتأييد شعبي جارف في العالم، يعني في ما يعنيه أن لا مشروعية لشعب واحد على حساب الآخر.
تقودني هذه المقارنات إلى التفكير بالأشخاص القياديين أنفسهم، ولا شك لدي أن نيلسون مانديلا، الزعيم الأفريقي الذي تحول إلى رمز للكفاح ضد الأبرتهايد، قد تمتع بصفات قيادية استثنائية، ولم يأتِ موقعه الرمزي من طريق الصدفة وفقط بسبب سجنه الطويل. لقد تجلى ذلك خلال المفاوضات من أجل القضاء على نظام الفصل العنصري، وتحليه بالإرادة الصلبة وبالرؤية التاريخية التي كان لها وزن كبير في نهاية المطاف في تحقيق الانتصار. وقد تجلت هذه الصفات بعد انتخابه رئيسًا لجنوب أفريقيا الجديدة في مجالات عدة لا مجال لذكرها هنا، ولعل تنازله عن الحكم وعدم تمسكه بالكرسي، وترك القيادة للجيل الجديد داخل حزب المؤتمر، هي أفضل تعبير عن ذلك.
في حالتنا، كان ياسر عرفات قائدًا يتمتع بنفوذ وشعبية كبيرين، وذلك لشجاعته وتضحياته الجمة، وكان يحظى باحترام وتقدير دولي قل مثيله في حركات التحرر الوطني، لكن تبقى هناك تلك الفوارق التي كان لها الوزن الكبير، وإن لم تكن العامل الوحيد في توصل حزب المؤتمر الوطني الأفريقي إلى تحقيق مشروعه كاملا (بغض النظر عن الفشل لاحقا في الكثير من جوانب الحكم). لقد جرى اختصار مشروعنا الوطني الفلسطيني بسلطة يتحكم بها الاحتلال، تفضي إلى إقامة بنتوستانات شبيهة بتلك التي أقامها نظام جنوب أفريقيا، ليتفادى مصيره المحتوم التي رفضها وأفشلها حزب المؤتمر. تلك الفوارق التي تمثلت في توقيع ياسر عرفات ومعه القيادة الفلسطينية على اتفاق أوسلو الذي لم يتضمن الحد الأدنى من المشروع الفلسطيني، فيما رفض مانديلا وقيادة حزب المؤتمر بأقل من إلغاء نظام الفصل العنصري.
خامسا : مشاركة اليهود في النضال ضد الصهيونية والاستعمار مقابل مشاركة البيض في النضال ضد الأبرتهايد
في كتاب مذكرات مانديلا، “الطريق الطويل إلى الحرية”، يتوقف أكثر من مرة عند دور البيض في مقاومة الأبرتهايد، وخصوصًا في تحويل النضال من نضال السود ضد البيض إلى نضال مشترك غير عرقي ضد نظام الفصل العنصري. منذ أن قرأت ذلك، وأنا مهتم في معضلة مشاركة أبناء المجتمع الاستعماري من المستوطنين في النضال ضد النظام، الذي يعطيهم هم أيضًا الامتيازات، والتي يستفيدون منها يوميًا.
ما يميز تجربة البيض المنخرطين في النضال ضد الأبرتهايد، ربما نتيجة وحشية وبربرية النظام نفسه، هو الثمن الشخصي الذي تحمله هؤلاء وعائلاتهم. وفي المقابل، كان ذلك الاستعداد للانخراط بكل ما يتطلبه ذلك النضال بما في ذلك المقاومة المسلحة والعمل السري، والدعوة الفعالة إلى مقاطعة النظام وفرض العقوبات الاقتصادية عليه. وقد حلقت في سماء هذا النضال أسماء كبيرة لم تكن كثيرة عدديًا، ولكنها صنعت الفرق الهائل محليًا، وكذلك على المستوى الدولي. منها المحامي برام فيشر، وهو من قيادات حزب المؤتمر الذين حوكموا في القضية الشهيرة باسم “قضية ريفونيا”، التي حكم فيها على مانديلا ورفاقه بالسجن المؤبد. وقد حوكم فيشر نفسه لاحقًا وحكم عليه هو أيضا بالسجن المؤبد، ومات بعد تسع سنوات في السجن بسبب السرطان؛ وكذلك دينيس جولدبرغ، الذي قضى 22 عامًا في السجن وخرج منه إلى المنفى في لندنح وكذلك جو سلوفو، وهو الأمين العام للحزب الشيوعي الجنوب أفريقي وزوجته روث فيرست؛ وكذلك راستي بيرنشتاين وزوجته هيلدا، وأيضًا القس تريفور هاديلستون وباتريك دونكان، وهو ابن حاكم جنوب أفريقيا؛ وأندري زايمان (قد تكون الأسماء هي التي بيّنت أن قسمًا من هؤلاء كانوا يهودًا).
من الواضح أن وزن هؤلاء كان أكبر بكثير من وزنهم عدديًا، وقد أتقنوا استغلال مواقعهم والحرية التي يملكون بسبب كونهم بيض، لإبراز قضية التمييز العرقي في جنوب أفريقيا دوليًا. مع الفروقات الموضوعية الكبيرة بين الحالتين الجنوب أفريقية والحالة الاستعمارية في فلسطين، فمن المثير مقارنة نشاط اليهود المناهضين حقيقة لنظام الفصل العنصري الصهيوني، والتنويه إلى غياب النموذج الجنوب أفريقي للمعارضين البيض في سياقنا هنا. هذا لا يقلل من أهمية نضال اليساريين اليهود من مختلف المنظمات والمجموعات والجمعيات المناهضة للاحتلال، ولكن من الواضح أنه مطلوب الآن نموذجًا آخر لمناهضة نظام الفصل العنصري والاحتلال الاستيطاني، في مواجهة الفاشية المستشرية وتغول التطرف المسياني للمجموعات الدينية. ويجب تطوير أساليب نضالية جديدة، حتى لو تطلبت الاستعداد لدفع أثمان لم تكن إلا في حالات رفض الخدمة العسكرية.
خاتمة
لا يمكن بعد هذه المقارنة أن نفلت من براثن الشعور باليأس وخيبة الأمل إزاء الأوضاع السياسية على الساحة الفلسطينية، والمأزق التاريخي الذي وصلت إليه القضية خصوصًا الآن، في ظل إدارة أميركية مغرقة في اليمينية ومتماثلة تمامًا مع سياسات وممارسات حكومة نتنياهو العنصرية وعصابات المستوطنين، وكذلك إزاء الوضع العربي الكارثي بعد إحباط الثورات العربية (باستثناء تونس)، واندلاع الحروب الأهلية الدموية في عدد منها، وكذلك لنجاح المحور الأميركي – الإسرائيلي في تحويل إيران إلى عدو مشترك لإسرائيل ولعدد من الدول العربية الأساسية، ما يغيب ويهمش قضية فلسطين.
في المقابل، وهنا الطامة الكبرى، تفشل جهود المصالحة الفلسطينية مرة بعد الأخرى ويكرّس الانقسام وكل هذا يصب في مصلحة إسرائيل.
صحيح أن اليأس والإحباط لا يخلق مشروعًا ولا يحيي أملا، ولا يقدم طريقا للخروج من المأزق؛ بالمقدار ذاته، فإن عدم النظر إلى الواقع كما هو ودفن الرأس في الرمل لا يفضي إلى شيء.
صحيح أنه في المنظور التاريخي الشعوب ذات الإرادة الحية لا تموت، وكذلك لا يموت حقها المشروع في الحياة الحرة الكريمة؛ فالشعب الفلسطيني هو شعب حي يحمل تاريخًا عريقًا، ويتمسك بأرضه وهويته، وهذا ما يغذي لهيب الصراع حتى وإن ظهر أن جذوته تكاد تخبو أحيانًا. إلا أن هذا الشعب الحي والمناضل يحتاج إلى برنامج عمل للخروج من هذا المأزق، وذلك لن يتحقق مع استمرار القيادات الحالية المسؤولة هي أيضًا عن الواقع المتردي الذي وصلنا إليه. هي في الواقع جزء من المشكلة وليست الحل. لا بديل عن تغيير حقيقي في كل المنظومة السياسية الفلسطينية يتجاوز كل التنظيمات والفصائل القائمة، ويصهرها عبر حراك سياسي شعبي فلسطيني في كل أماكن تواجد الشعب الفلسطيني. حراك يعيد بناء المشروع الوطني وينظم استغلال الطاقات الهائلة الكامنة في هذا الشعب، ويستغل استغلالا عصريًا من خلال الانفتاح داخليًا وخارجيًا، نقاط القوة الكبيرة والكثيرة لدينا، وذلك على الرغم من الحالة المتردية التي نعيشها اليوم.
*نائب سابق وأسير محرر من الداخل الفلسطيني – عن “عرب ٤٨”