بقلم: عيسى قراقع*
لأول مرة أدعى فيها إلى أحياء أحتفال بمناسبة ذكرى أطلاق قنبلة، صاحب الدعوة الأسير المحرر المناضل صالح أبو لبن، سكان مخيم الدهيشة والذي قضى خمسة عشر عاماً في سجون الأحتلال، وفي يوم 16/2/2020 أكتمل المدعوون في قاعة مركز إبداع لإحياء مرور خمسين عاماً على أطلاق قنبلة يدوية القاها صالح أبو لين على سيارة عسكرية اسرائيلية عام 1970 خلال مرورها من شارع القدس الخليل المحاذي لمخيم الدهيشة.
الأحتفال الذي تخلله موسيقى واغاني وتوزيع حلويات وأتخذ طابع عائلي خاصة أن معظم الحضور هم من أصدقاء صالح ومن سكان المخيم ومن الاسرى المحررين، وتحدث صالح عن هذه الذكرى حيث كان فتى لايزيد عمره عن 16 عاماً عندما القى القنبلة على المحتلين وقال لهم: كفى لن تمروا.
نظرت الى الحضور وهم يستمعون الى صالح أبو لبن الذي القى القنلبة من فوق مدرسة ذكور الدهيشة الاعدادية بعد أن خطط بدقة ليصيب الهدف ويسمع صوت الانفجار المدوي الذي حرك سكون الهزيمة وغير مجرى الرياح وايقظ طائر الفينيق من تحت الرماد.
جميع الحاضرين ترسمت على وجوههم كلمات صامتة وفي عيونهم لمحت الكثير من الذكريات المتشابهة: ذكرى أطلاق حجر أو مولوتوف على جنود الأحتلال وفي أزقة المخيم، ذكرى هدم السياج والاسلاك الشائكة التي كانت تحيط بالمخيم، ذكرى المشاركة في مظاهرات وعمليات المقاومة، ذكرى ملاحقة أو مطاردة، ذكرى الاقامات الجبرية والاستدعاءات ، ذكرى اصابات لا زالت اثارها على الاجساد،ذكرى سقوط هذا الشهيد أو ذاك في هذا الشارع أو تلك الحارة ، ذكرى أقتحام البيوت بعد منتصف الليل وتحطيم أثاث البيت والاعتداء على أفراد العائلة .
في قاعة إبداع وفي هذا الأحتفال تداعت الذكريات، جاءت الأسماء والمواقع والتفاصيل من بعيد، إنفتح الغياب على الأحياء والاموات، قطرات دمع وأسئلة تلمحها في عيون الحاضرين، هذه القنبلة لازلت تنفجر وتتطاير شظاياها، هذه القنبلة كتبت بالبارود والجرأة والبطولة مضمون الرواية للاجئين الذين نهضوا من تحت الخيمة واستبدلوا بطاقة الاعاشة بصاعق فجر قنبلة .
وما أسرج الموت شهيد..
الا لتمضي نحو يافا..
قافلة .
تحدث صالح بهدوء ولكن المتحدث كان اكثر من صالح، سمعت من يتحدث عن اعتقال عريس ليلة الزفاف، وسمعت عن المقاومة الشعبية بالاغاني والطائرات الورقية، وسمعت من يتحدث عن الاعتقال الجماعي في ساحة المدرسة :التعذيب والشبح والاهانات والدعس والبصق والتعرية في سجن عصيون او الظاهرية او المسكوبية والفارعة.
اخرج الحاضرون قنابلهم في قاعة مركز ابداع : اضراب مفتوح عن الطعام في سجن نفحة وارتقاء ثلاثة شهداء في تلك الملحمة ، احد الحاضرين بدا يغني قصيدة كتبت في سجن النقب، واخر بدأ يتحسس راسه الذي ما زالت تنغرز فيه رصاصة، وشاهدت احد الحاضرين يخرج رسالة من جيبه تتحدث عن تلك الليلة في المخيم وتحت قصف الرصاص والدماء الغزيرة لم ينس موعده مع الحبيبة.
اقتربت من احد المدعووين وكان يبكي خلال الاحتفال، نظرت اليه فاذا بقدمه اليسرى مبتورة، يحمل عكازا لتساعده على المشي، قال لي: تذكرت قدمي التي مزقها رصاص الاحتلال، طارت فتركتني انتظرها تسير الى القدس في خطواتها القادمة.
الدعوة تكشف الاسرار الكثيرة، هناك مسدسا مدفونا تحت صخرة ملفوفا بكوفية ،هناك قرية مدفونة تحت مستعمرة، خلايا بشر نائمة وقائمة، بيوت منسوفة، هناك لغة واشارات واجيال غاضبة .
لا وقت للمؤرخين الان، يهمس الجميع، لا زلنا تحت الاحتلال، لا زال المخيم شاهدا على اكبر جريمة عصرية، نحتاج الى الماضي والحاضر والمستقبل والذخيرة.
انفجرت القنبلة قبل خمسين عاما، فرض منع التجوال على المخيم وشنت حملة اعتقالات ومداهمات واسعة، فهذه القنبلة قالت رغم الهزائم والنكبات فقد نهضنا لندافع عن حقوقنا ووجودنا وهويتنا الوطنية ، لقد اكتشفنا النار كما قال الشاعر احمد دحبور
عرفت : ان الجبل العظيم ليس يمشي
عرفت : كنت ميتا والذكريات نعشي
ساعتها وظفت ما املكه من النار ليحرق الذاكرة
القنبلة اليدوية هي صوت ( اللا ) الفلسطينية لمشاريع توطين الاجئين والمخططات التامرية على الحق التاريخي بالعودة، صوت ضحايا المجازر والمذابح والمشردين و الارض المنهوبة.
القنبلة اضاءت الذاكرة : شحبار لامبة الكاز في طاقة بيت الوكالة ، طوابير الناس المصطفين لاستلام البقجة او كيس الطحين، النساء اللاواتي يحملن تنكات الماء على رؤوسهن فوق ( الحواة ) ويصعدن جبل قرية ارطاس حيث النبع التاريخي العذب يخرخر في الارض قبل ان تسرقه تلك المستوطنة .
كل فلسطيني يحمل في داخله قنبلة ، لهذا اتهم الاسرائيليون الفلسطينيين بانهم قنابل موقوتة ، قنابل من وجع وضغط وكبريت ، ولهذا يطلق الجنود النار على كل فلسطيني يقترب من حاجز عسكري او يزرع شجرة ، جيش الاحتلال المهووس تحول الى محكمة ميدانية للفلسطينيين ، استخدام التعذيب العسكري العنيف بحق كل فلسطيني في اقبية التحقيق من اجل تعطيل القنبلة، في دم ولحم وشريان كل فلسطيني بارود قد يشتعل في وجه المحتلين .
القنبلة تعلن تمرد اللجوء على الذل والنكبة ونهوض الحركة الوطنية في مرحلة البحث عن الشخصية الوطنية والكيانية الفلسطينية، القنبلة لا زالت وفية بعد خمسين عاما لكل الاجيال التي ناضلت وضحت من اجل الكرامة والحرية.
عاد صالح الى المخيم بعد خمسة عشر عاما في السجون، عاد الى البداية لانه رغم الزمن الطويل لم يصل الى النهاية، تنقل من زنزانة الى زنزانة ومن حارة الى حارة وما زال يصرخ : استمروا، الاحتلال يتعمق في حياتنا اكثر ، الاحتلال يشطب التاريخ والاحلام المشروعة: الجدار،الاستيطان، صفقة القرن، هدم البيوت ، مصادرة الاراضي و الاعتقالات الجماعية ،تفشي العنصرية والفاشية والجريمة المنظمة.
قنبلة صالح ابو لبن في ذكراها الخمسين تعلن ان سجون الاحتلال اصبحت دفيئة مشحونة بالغضب بسبب انتهاكات الاحتلال الجسيمة ، السجون صارت قنابلا تنفجر كل حين في وجه جلاديها ، الملح والماء و الجوع تنفجر في سبيل الشرف ، الشرف اقوى من الموت فهو سلاح المضهدين والمعذبين .
قنبلة صالح ابو لبن تعيد رسم الخارطة ، المخيمات التي ليس لها ملامح سوى ظلال باهتة في الجغرافية الاسرائيلية تظهر الان واضحة في لهيب القنبلة ، المخيم هو الشاهد العنيد على الجرائم الاسرائيلية المنظمة ، المخيم لازال يبحث عن طريق عودته الى ملامحه الجغرافية الاصلية ، وعندما سال صالح استاذه في المدرسة ما هو المخيم ؟ احتار الاستاذ قليلا ثم قال المخيم هو المكان الذي لا مكان له ، يفقد الفرد فيه فرادته وخصوصيته الانسانية ويصبح مجرد مسافر في اللا مكان وفي الفراغ الزمني ، في اليوم التالي عبأ صالح الزمن والقى القنبلة من فوق المدرسة.
قنبلة صالح ابو لبن مصنوعة من تراب وطين ودم ، ومنذ اكثر من 72 عاما على النكبة و الاسرائيليون يحفرون ويجرفون ويفتشون عن القنابل في قاع الارض وفي جذور الشجر، وكلما حفروا انفجر في وجههم حجر ، لم يجدوا لهم اثارا او تاريخا ، وجدوا هياكل اجدادنا تنام صاحية فوق مذبحة ، وبسبب كل ذلك شرع الاسرائيليون قانونا يقضي باحتجاز جثامين الشهداء الفلسطينين في مقابر بعيدة مسيجه ، ولان جثث الشهداء تبقى ملتهبة وساخنة فانهم يحتجزونها مدة طويلة في ثلاجات باردة.
القنبلة توصينا ان لا نتمسك بالشكليات والرموز والمناصب ، لا يوجد احتلال جميل ، لنحول الاحتلال الى عبء على الاحتلال ، الكرامة اهم من لقمة الخبز اذا كانت مغمسة بالخنوع والاذلال ، القنبلة تروي قصة جيل النكبة ، تنامي الوعي الثوري المتصاعد الذي فجر الفكرة واوقد الجمرة ، اسقاط مفهوم المخيم الذي اراده المحتلون مكانا ابدياً ثابتاً لتقطيع الاوصال والسلالات والذكريات ووحدة الكوشان والميلاد والهوية.
من ذلك الفتى ابن ال16 عاما الذي يدعونا للاحتفال بذكرى اطلاقه قنبلة ، غاب سنوات طويلة في السجون وعاد الى طفولته المهشمة ، لا يملك ذكريات سعيدة وجميلة ، لا موسيقى و لا اعياد ميلاد مبهجة ، لم ير البحر يوما ليلعب في الماء وعلى الرمل ويداعب سمكة ، هذا الطفل لم يعد طفل منذ ان اجتاحت فلسطين الحرب والنهب والجريمة المنظمة.
قنبلة صالح ابو لبن هي اعلان وفاء تاريخي للحالة الوطنية التي حملها اللاجئون على اكتافهم : الشهداء والاسرى والفقراء والجوعى والمطلوبين والمطاردين ، وفاء للنساء الرائعات اللواتي انجبن الفدائيين من حبق وحرية .
القنبلة هي صوت النكبة، هي رسالة شعب وصفهم محمود درويش:
فدائيون منذورون للجمرة..
على قرميد أغنية..
وشهوة شارع صاعد..
على أسطورة حرة..
هي الثورة… هي الثورة.