بقلم: الدكتور أحمد يوسف
في تاريخ الشعوب والأمم صفحات تتغنى بها فخراً واعتزازاً، باعتبارها تمثل مشكاة مجدها التليد.. فالأتراك العثمانيين بأمبرطوريتهم العظمى، التي تجلت على فضاء من الزمان تجاوز الستة قرون، وبجغرافيا شاسعة المدى على أراضي مساحتها تزيد عن خمسة ملايين كيلو متر مربع، حيث بلغت الدولة العثمانية ذروة مجدها وقوتها خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، فامتدت أراضيها لتشمل أنحاء واسعة من قارات العالم القديم الثلاث : أوروبا وآسيا وأفريقيا، وقد خضعت لها كامل آسيا الصغرى وأجزاء كبيرة من جنوب شرق أوروبا، وغربي آسيا، وشمالي أفريقيا.
إن الأتراك وعبر تاريخهم المليء بالانتصارات يحق لهم الاحتفال بالكثير من تلك الملاحم البطولية، إلا أن مناسبة “فتح القسطنطينية” يحظى الاحتفاء بها لدى الإسلاميين الأتراك بأهمية خاصة من كل عام، حيث ينظرون إليها تاريخياً كأحد زاويا التمكين للأمة الإسلامية، إذ كان هذا السقوط لعاصمة الإمبراطورية البيزنطية الحصينة يعني توقف الحملات الصليبية، وانكسار موجة المد المسيحي نحو الشرق الإسلامي. لقد أدى هذا “الفتح الكبير” دونما شكٍّ إلى انهيار الروح الصليبية في الغرب لعدة قرون قادمة.
كان السلطان محمد الفاتح (رحمه الله)؛ ابن مراد الثاني، واحداً من أعظم سلاطين العثمانيين، الذين تركوا بصمة وأثراً، وخُلِّدت أسماؤهم في سرديات التاريخ الإسلامي كفاتحين، ومن أشهرهم السلطان سليمان القانوني والسلطان سليم الأول.
لا شك أن المسلم الذي يقرأ تاريخ العثمانيين سيشعر بكثير من الفخر والتقدير لهؤلاء الذين حملوا على عاتقهم كرامة أمتهم، وبنوا لها بدمائهم الزكية الطاهرة هيبة ومكانة غير مسبوقة بين الشعوب والأمم.
في مثل هذا اليوم 29 مايو 1453، كان الفتح العظيم للقسطنطينية، لتتحول إلى اسطنبول أو (أرض الإسلام)، والتي ظلت منذ ذلك التاريخ عاصمة لدولة الخلافة الإسلامية، إلى أن خرجت تركيا العثمانية من خريطة الدول العظمى، بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى من عشرينيات القرن الماضي، وانتقلت عاصمتها التاريخية؛ دُّرة مدائن العالم، إلى أنقرة العاصمة الحديثة، لتدشن بذلك عهداً جديداً من الحكم العلماني، الذي لا يمت لتاريخها الإسلامي العريق.
جائحة الكورونا
طالت إقامتي داخل منطقة الفاتح قلب مدينة اسطنبول؛ التي تجسد عَبق التاريخ العثماني المجيد، وكثرت مشاهدتي لأسوار القسطنطينية بقلاعها وبواباتها العتيدة، ومنحني هذا البقاء لفترات طويلة داخل المنزل، التزاماً بالحجر الصحي المفروض على كبار السن بسبب جائحة الكورونا، الكثير من الوقت للقراءة والتأمل في التاريخ العثماني، ومتابعة العديد من الأفلام الوثائقية حول ذلك التاريخ، إضافة إلى ما قدمه الأتراك حديثاً من مسلسلات وأفلام بمعالجات سينمائية مهنية راقية مثل (قيامة أرطغرل) و(فتح 1453)، أعادت إلى الأذهان عظمة ذلك التاريخ، الذي تمَّ تشويهه بأقلام غربية وأخرى عربية للأسف.
لا شك أن الرئيس أردوغان قد أولى هذا التاريخ اهتماماً خاصاً، استقاه من مرشده الأول نجم الدين أربكان (رحمه الله)، والذي أفرد لهذه الذكرى منذ العام 1969م مناسبة احتفالية حاشدة، حيث يحضرها ممثلون من معظم الحركات والجماعات الإسلامية قادمين من كل أنحاء العالم، ليشهدوا أجواء الذكرى، ويعيشوا مع إخوانهم الأتراك بهجة الفرح والسعادة بصفحات مشرقة من تاريخهم المجيد.. لقد اتيح لي المشاركة في واحدة من تلك الاحتفالات قبل عشر سنوات، والتي تركت في نفسي الكثير من النشوة والفخر والاعتزاز بهذا التاريخ.
في الحقيقة، كانت قراءاتي ومشاركاتي في العديد من اللقاءات مع الرئيس رجب طيب أردوغان، ومن قبله مع السيد نجم الدين أربكان، وسماعي لرؤيتهما السياسية والفكرية ومواقفهما المتميزة على مستوى الأمة الإسلامية، والتي تعكس نبض زعامة تقتفي أثر سلطان العالمين محمد الفاتح، وتمتلك رؤيتهما إيمان وروح وضمير السابقين من أسلافهما العثمانيين، والقائلة: إنَّ صناعة التاريخ عملية لا يقوم بها الجبناء”.
تركيا أردوغان.. الرؤية والأمل
اليوم، يتجلى مشهد الحكم والسياسة في تركيا أردوغان بالكثير من المواقف المتقدمة في دعم القضية الفلسطينية، وإيواء ملايين اللاجئين السوريين والدفاع عن النازحين منهم في جارابلس وتل أبيض وإدلب، ومساندة الحكومة الشرعية في ليبيا، ومحاولة بناء تكتل عربي- إسلامي لاستنهاض الأمة للحفاظ على مكانتها بين الأمم.
إن الرئيس أردوغان، يعتبر أن فتح القسطنطينية، هو أحد أهم نقاط التحول في تاريخ العالم، بالنظر إلى نتائجه السياسية والثقافية والاجتماعية، وهو نصر مليئٌ بالعبر بالنسبة لتركيا وللإنسانية جمعاء.. كما أنه يرى أن استانبول كانت منذ تأسيسها عاصمة لدول وثقافات مختلفة، وقد تحولت إلى مركز للتسامح والتكافل والعيش بسلام جنباً إلى جنب، تحت الإدارة العادلة للسلطان محمد الفاتح”. ولذلك، فهو يعتبر أن فتح القسطنطينية واحدًا من أروع الانتصارات في التاريخ، وقال: “بهذه المناسبة، أذكر بالرحمة والتعظيم السلطان محمد الفاتح، الذي نال شرف الثناء من النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، حيث تمكن وهو لا يزال في سن الـ21 من عمره، وأفراد جيشه الشجعان، من فتح اسطنبول”.
وإنصافاً للحقيقة، فإن أردوغان يمتلك طموحات كبيرة وهي بمستوى تطلعات شعوب الأمة وحركاتها الإسلامية، ولكنَّ “الجيوبولتيك” الذي يحكم العالم، وحالة التشظي التي عليها أوضاع العرب والمسلمين وتشرذم قواهم، وتبعية الكثير من أنظمتهم السياسية ودورانها في فلك السياسات الغربية، الأمر الذي بدد قدراتهم وثرواتهم، وأحالهم إلى أنظمة أشبه بسقط المتاع.
بالتأكيد؛ ستبقى ذكرى فتح القسطنطينية، والذي مضى عليه أكثر من خمسة قرون ونصف القرن، محطة مهمة في تاريخ الأمة الإسلامية، وشرف مكانتها بين الحضارات والأمم، والأفق الذي ترنو إليه كل حركات التحرر والبعث الإسلامي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وأخيراً… نعم؛ قد لا تكون تركيا- أردوغان هي النموذج الإسلامي المثالي في نظر البعض، ولكنها – بالتأكيد – تسعى على طريق إنجاز هذا الحلم، كونها اليوم تمثل نظاماً ديمقراطياً للحكم يحترم نفسه، ويعمل على تحقيق مصالح وخيارات شعبه وأمته الإسلامية، بعيداً عن مشهد التبعية والخنوع لهيمنة الشرق أو الغرب، وبالتالي الارتقاء بمكانة أمة كانت عبر تاريخها الإسلامي هي الأعظم بين الأمم.