بقلم: اللواء محمد إبراهيم الدويري*
هناك سؤال يراودني منذ فترة سوف اجتهد في محاولة الإجابة عليه، وهو ماذا يتوقع العالم بشأن كيفية تصرف الفلسطينيين خلال المرحلة القادمة؟ وكيف سيكون تحرك الشعب الفلسطيني وقيادته وهما يريان أن حلم الدولة المستقلة ينتهي تدريجيا؟ وأن آمال تحقيق هذا الحلم تكاد تتلاشى تماماً في ظل احتلال إسرائيلي قابع منذ أكثر من خمسين عاما، وينفذ مخططاته على الأرض يوما بعد يوم دون أن تكون هناك قوة تجبره على التوقف أو التراجع.
وقبل التعرض للإجابة على هذا السؤال لا بد من الإجابة على سؤال آخر يسبقه: ماذا يريد الفلسطينيون؟ وهل مطالبهم تعد منطقية وعادلة أم أنها مستحيلة التنفيذ؟ وباختصار، فإن مطلب الشعب الفلسطيني يتمثل في الحصول على دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة متواصلة الأطراف على حدود 1967 عاصمتها القدس الشرقية (22% من أرض فلسطين التاريخية) تعيش جنباً إلى جنب بجوار دولة إسرائيل في أمن وسلام، على أن يتم التوصل إلى هذا الهدف من خلال عملية تفاوضية مع الجانب الإسرائيلي يشرف عليها المجتمع الدولي بشكل أو آخر.
ومن الإنصاف أن أشير إلى أن الفلسطينيين لم ينفصلوا عن الأمر الواقع وهم يحاولون الوصول إلى دولتهم وعاصمتهم، حيث حرصت السلطة الفلسطينية على أن تكون رسالتها للعالم المتحضر أنها تعي طبيعة الوضع الراهن في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتتفهم المتغيرات التي حدثت على الأرض طوال سنوات طويلة سابقة، ولذا أبدت كل المرونة الممكنة في المفاوضات، وأكدت إمكانية التوافق على أهم المبادئ التالية:
– أن تكون هناك إجراءات وضمانات أمن متبادلة تحقق الأمن للجانب الإسرائيلي ودون أن تجور على الأمن والسيادة الفلسطينية (إمكانية وجود طرف دولي ثالث على الأرض لفترة زمنية).
– إمكانية تحقيق تبادل (محدود) للأراضي بين كل من فلسطين وإسرائيل على أن يكون هذا التبادل بنفس النسبة والقيمة.
– أن تظل القدس مدينة مفتوحة لكافة أتباع الأديان السماوية الثلاثة.
– التوصل إلى حل عادل ومتفق عليه لمشكلة اللاجئين.
– توقف الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي خلال فترة التفاوض عن اتخاذ أية إجراءات أحادية الجانب.
إذن، من الواضح أن المطالب الفلسطينية في مجملها تُعد أقل الحقوق التي يمكن أن يحصل عليها شعب يرغب في الاستقلال وأن يعيش في أمن وسلام واستقرار مع جيرانه بعد عقود من الاحتلال. ولا يجب أن ينسى أحد أن الفلسطينيين أبدوا موقفا متقدما للغاية عندما عرضوا أوجه هذه المرونة من أجل إنجاح المفاوضات وبهدف سد الذرائع أمام الحجج الإسرائيلية وحتى يتم إنهاء هذا الصراع شديد التعقيد.
وفى نفس الوقت يبدو من الضروري توضيح مواقف المجتمع الدولي بكافة اتجاهاته إزاء القضية الفلسطينية وتطوراتها الأخيرة. وهنا يمكن تصنيف مواقف المجتمع الدولي إلى أربعة أقسام رئيسية، نعرضها فيما يلي:
القسم الأول، تمثله الدول العربية، وتتبنى بالطبع نفس المواقف الفلسطينية، وعبرت عن ذلك بوضوح وبمصداقية في مبادرة السلام العربية التي طُرحت في قمة بيروت في مارس عام 2002. كما أكدت الزعامات والقيادات العربية، وعلى رأسها القيادة السياسية المصرية، أنهم لن يضغطوا على الجانب الفلسطيني وسيقبلون ما يقبله الفلسطينيون وسيرفضون ما يرفضونه. وقد تجلى هذا الأمر في العديد من نتائج الاجتماعات الأخيرة للجامعة العربية التي تناولت القضية الفلسطينية.
القسم الثاني، تمثله إسرائيل، وهي تتمسك بمبدأ لا تريد أن تتنازل عنه مفاده أن أية دولة فلسطينية مزمعة يمكن أن تُقام في الضفة الغربية وقطاع غزة يجب أن تمر من بوابة واحدة فقط وهي بوابة الأمن الإسرائيلي بغض النظر عن الثمن الذي سيدفعه الفلسطينيون والأراضي التي ستُقتطع منهم. هذا بالإضافة إلى الموقف الإسرائيلي المتعنت إزاء ضرورة إسقاط قضيتي القدس واللاجئين من أية مفاوضات.
القسم الثالث، تمثله الولايات المتحدة، أو بمعنى أدق الإدارة الجمهورية الحالية، التي تتبنى بشكل واضح الموقف الإسرائيلي بل وتحولت من شريك كامل في المفاوضات إلى طرف متحيز تماماً لصالح الإسرائيليين. وقد تجلى ذلك بوضوح في خطة السلام الأمريكية التي طرحها الرئيس دونالد ترامب في يناير 2020، والتي تمنح الإسرائيليين كل مطالبهم ولا تتحدث إلا عن إمكانية إقامة دويلة فلسطينية متقطعة الأوصال ومنقوصة السيادة.
القسم الرابع، يمثله المجتمع الدولي (الدول الأوروبية، والصين، وروسيا، والدول الآسيوية والأفريقية)، وهي تتبنى تقريبا الموقفين الفلسطيني والعربي بشأن إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 مع معارضة الإجراءات الإسرائيلية أحادية الجانب.
ومن الضروري هنا أن نطرح السؤال التالي: هل يمتلك المجتمع الدولي ذو الأغلبية العددية القدرة على الضغط على إسرائيل لتغيير مواقفها أو على الأقل القبول ببعض المطالب الفلسطينية؟ وفى رأيي أن هذا الضغط قد يكون متاحاً من حيث الشكل ولكنه يظل مقيداً من حيث الموضوع، حيث تؤكد السوابق أن المجتمع الدولي قد اكتفى بالشجب والرفض والإدانة للإجراءات الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية. وكان أقصى تطور عملي شهدناه هو بعض مظاهر المقاطعة للمنتجات الإسرائيلية المصنعة في مستوطنات الضفة الغربية، وكذا بعض الإجراءات الأخرى التي لم ترق إلى مرحلة الضغط الحقيقي على إسرائيل.
ولا شك أن هذا الموقف الدولي سوف يتعرض لاختبار حقيقي خلال الفترة القريبة المقبلة عندما تبدأ إسرائيل في تنفيذ عملية ضم منطقة غور الأردن. وتشير المعطيات الحالية إلى أن هناك رفضاَ دولياً لهذه الخطوة الإسرائيلية، لكن لا يبدو حتى الآن أن هناك توافقاً على كيفية التعامل مع هذا الموقف الإسرائيلي وإلى أي مدى قد يصل الأمر إلى ما يمكن أن نسميه مجازاً الضغط على إسرائيل ومجالات هذا الضغط.
ولا يفوتني هنا أن أشير إلى أن الضغوط الأوروبية على إسرائيل –إذا كانت جدية- سوف تصطدم بعاملين رئيسيين: الأول، هو التوافق الإسرائيلي الأمريكي على خطوة الضم باعتبارها جزء من “صفقة القرن” التي طرحها الرئيس ترامب رغم المعارضة الدولية الواضحة والمعلنة. العامل الثاني، أن الدول الأوروبية لن تتفق فيما بينها على أن ينتقل الضغط على إسرائيل إلى مرحلة تؤثر على العلاقات الأوروبية، سواء مع إسرائيل أو مع الولايات المتحدة.
وفى ضوء ما سبق يمكن قراءة الموقف المتوقع أن نشهده خلال المرحلة القادمة كما يلي:
1- اتجاه إسرائيل إلى إعلان ضم المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية باعتبار أن هناك توافقا داخل الحكومة الجديدة على هذا الإجراء حتى لو كانت هناك بعض الأصوات القليلة الرافضة. كما أن هذا الإجراء يحظى بتأييد أغلبية الرأي العام الإسرائيلي والأحزاب اليمينية والدينية والكنيست، بالإضافة إلى رغبة ناتانياهو في أن يكون له السبق كأول رئيس وزراء إسرائيلي ينجح في اتخاذ هذا القرار.
2- أن الموقف الفلسطيني الذي يحاول مواجهة هذا القرار بكل ما يمتلك من أدوات متاحة قد يجد نفسه مضطرا -حتى ولو بشكل مؤقت- للحفاظ على مبدأ التوازن بين القرار الخاص بأن يكون في حل من الالتزامات والتفاهمات الموقعة مع إسرائيل والولايات المتحدة، وبين أن تستمر السلطة الفلسطينية في القيام بدورها المهم في رعاية أكثر من أربعة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، بالإضافة إلى كونها سلطة سياسية لاتزال تحظى بدعم دولي ودبلوماسي غير مسبوق.
3- أن واشنطن عازمة على تنفيذ خطتها للسلام التي تتضمن من بين بنودها ضم منطقة غور الأردن، وبالتالي فإن الضغط الأمريكي على إسرائيل لإلغاء قرار الضم يعد أمراً منعدما. وفى رأيي إن أقصى ما يمكن أن نتوقعه من الولايات المتحدة هو أن تطلب من إسرائيل تأجيل قرار الضم لفترة زمنية قصيرة، وقد تنجح في ذلك وقد لا تنجح.
4- أن الدول العربية التي أعلنت من قبل رفضها لخطة السلام الأمريكية، وأكدت تمسكها بمبادرة السلام العربية، ستكون أمام موقف جديد في حالة بدء تنفيذ إسرائيل خطة الضم على الأرض. ومن غير المتوقع أن نشهد تغيرا حادا في الموقف العربي يجبر إسرائيل على تغيير مواقفها. وستكون هناك ضغوطاً على كل من مصر والأردن -اللتان ترتبطان بمعاهدتي سلام مع إسرائيل- لاتخاذ مواقف أكثر حدة ووضوحاً تجاه القرار الإسرائيلي، مع الأخذ في الاعتبار أن كلا منهما له حساباته التي يجب احترامها وتقديرها، خاصة أن مواقف مصر والأردن تجاه القضية الفلسطينية تُعد من أهم المواقف المؤيدة تماماً للموقف الفلسطيني العادل.
5- أن المجتمع الدولي سيبدى رفضاً قاطعاً لهذه الخطوة الإسرائيلية، إلا أن أي تصعيد في الموقف الأوروبي سيخضع لاعتبارات دقيقة سوف تحول دون تطوير هذا الموقف لأكثر من الإجراءات والقرارات المعروفة سلفاً.
في النهاية لابد أن نثير سؤالاً مهما آخر مفاده ما هي الإجراءات أو الخطوات المطلوبة في المرحلة القريبة القادمة؟ وهنا أطرح ما يلي:
1- أن المجتمع الدولي ككل -بما فيه الولايات المتحدة وإسرائيل- يجب أن يعي جيداً أن القضية الفلسطينية تختلف عن الصراعات الأخرى في ليبيا والعراق وسوريا واليمن، حيث أن استمرار هذه القضية دون حل عادل، واعتزام إسرائيل تنفيذ قرار الضم سيؤدى إلى انفجار الموقف في الأراضي الفلسطينية، خاصة مع التغيرات المتوقعة التي سترتبط بوقف التنسيق الأمني بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وبما سيؤثر بالسلب ليس على أطراف القضية فقط، وإنما على أمن المنطقة كلها، وعلى المصالح الغربية في العالم. وقد تزيد هذه التطورات من حدة الإرهاب، وتعطى الفرصة للجماعات الإرهابية لتنشيط عملياتها بدعوى أو تحت ستار الدفاع عن فلسطين.
2- ضرورة مواصلة التركيز على مبدأ حل الدولتين بالشكل الذي يقبله العرب والفلسطينيون مهما كانت الصعوبات المثارة أمام هذا الحل، مع أهمية استبعاد وتجاهل الفكرة التي يروج لها البعض حول حل الدولة الواحدة؛ تلك الفكرة غير العادلة والتي من الضروري رفضها ووأدها لأنها لن تتيح للفلسطينيين سوى أن يكونوا أقلية في دولة يهودية.
3- أهمية التواصل العربي والدولي العاجل مع الإدارة الأمريكية من أجل دفع إسرائيل لإعادة النظر في قرار ضم منطقة غور الأردن، الأمر الذي سوف يساعد على تهدئة الوضع الذي قد ينفجر في أي وقت في حالة تنفيذ هذا القرار.
4- ضرورة أن يركز الفلسطينيون في الفترة المقبلة كأولوية أولى وعاجلة على كيفية حشد كافة الجهود الداخلية والإقليمية والدولية من أجل منع إسرائيل من تنفيذ قرار الضم أكثر من تركيزهم على أية قضايا أخرى لن تغير من الأمر الواقع، وإن كانت مسألة استئناف جهود إنهاء الانقسام تظل مطلوبة في كل الأوقات.
5- بحث فكرة عقد اجتماعات تمهيدية عاجلة بين بعض الأطراف المعنية لاستكشاف إمكانية استئناف العملية التفاوضية، وذلك على أساس أرضية أو مرجعية يتفق عليها من جانب كافة الأطراف. ولا مانع من التفكير في أن تكون هناك أرضية جديدة إما خارج سياق خطة السلام الأمريكية إذا كان ذلك ممكنا، أو أرضية تجمع كافة المرجعيات بما فيها مقررات الشرعية الدولية.
في النهاية سوف تظل القضية الفلسطينية هي القضية العربية المركزية، وأن استمرار تمسك الموقف العربي بالثوابت المعروفة سيمثل دعماً للقضية مهما تزايدت التعقيدات. كما أن الفترة المقبلة التي ستشهد إجراءات إسرائيلية غير مسبوقة نحو ضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية لابد أن تشهد مواقف فلسطينية وعربية ودولية ضاغطة (بقدر المستطاع) على كل من الولايات المتحدة وإسرائيل من أجل إنجاز هدفين رئيسيين، أولهما وأهمهما وقف تنفيذ هذا القرار الإسرائيلي. وثانيهما، استئناف المفاوضات السياسية في مرحلة تالية حتى تحظى القضية الفلسطينية بزخم من المؤكد أنه لن يتوافر في ظروف أخرى.
*نائب المدير العام للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية