بقلم: المحامي علي أبو هلال*
جرائم عديدة ارتكبتها قوات الاحتلال الاسرائيلي ضد الفلسطينيين سواء داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، أو خارجها، ومنها جرائم القتل العمد ضد المدنيين، قتل خلالها عدد كبير منهم، ولكن مرات قليلة كانت تعترف سلطات الاحتلال بمسؤوليتها المباشرة عن هذه الجرائم البشعة التي ارتكبتها قواتها بدم بارد، وبدون أي مبرر أو رادع أخلاقي أو إنساني.
ومن هذه الجرائم قتل الشهيد إياد الحلاق (32 عاما) الذي قتلته قوات الاحتلال بدم بارد، بالقرب من باب الاسباط في القدس المحتلة في الثلاثين من شهر أيار/ مايو الماضي، بينما كان في طريقه إلى مدرسته الخاصة بذوي الإعاقة، بدعوى الاشتباه في أنه كان يعتزم تنفيذ هجوم عليها، رغم علمها بكونه مريضا بالتوحّد.
والدة الشهيد تروي تفاصيل اليوم الأخير من حياة نجلها إياد، وتصر على أن ابنها كان يحمل هاتفه النقال عندما قتل، بينما زعم من قتله من جنود الاحتلال أنّ إياد كان يحمل مسدساً فلاحقوه حتى قتلوه، وتقول والدته أنها رجته وتوسلت إليه في ذلك اليوم بألا يذهب إلى مدرسة “البكرية” حيث يتعلم منذ ست سنوات كيفية التصرف في حياته اليومية وكيف يعتمد على نفسه من دون مساعدة، تقول الوالدة: “لكنّه لم يردّ عليّ، وقال إنّ عليه أن يذهب إلى المدرسة، ولم تمرّ بعدها ساعة حتى جاءت ابنتي لتخبرني أنّ اليهود قتلوا ابني. لا أعرف كيف تدبرت أمري ومضيت سريعة إلى باب الأسباط. في المدرسة قالوا لي إنّ إياد أصيب برجله وأخذه الاحتلال، فرجعت إلى البيت لأجد شرطة الاحتلال فيه تفتش في كلّ غرفة”.
تقع مدرسة إياد “البكرية” على مدخل باب العتم (الملك فيصل بن الحسين)، وهو أحد أبواب المسجد الأقصى من ناحيته الشمالية، وتضم عشرات الفتية والفتيات والشبان والشابات الأكبر سناً مثل إياد، ممن لديهم توحد، وقد اعتاد الشهيد أن يسلك يومياً المسار نفسه الذي سلكه يوم استشهاده، وفي المسار هذا ينتشر جنود الاحتلال، لكنّهم يعرفون إياد تماماً ويعلمون إلى أين يمضي، فقد اعتادوا رؤيته يومياً كما يقول والد الشهيد، خيري روحي الحلاق. يضيف: “حتى ملامح وجهه كانت تدلّ عليه، وعلى حالته الصحية”.
ويقول والد الشهيد “زودنا إياد بهاتف محمول حتى نتمكن من الاطمئنان عليه منذ لحظة خروجه من البيت وصولاً إلى مدرسته، ومنذ لحظة مغادرته المدرسة حتى عودته إلى البيت، كما أنّه يحتفظ دائماً بشهادة مكتوبة تثبت بأنّ لديه توحدا، وكان في إمكان جنود الاحتلال أن يطلعوا عليها، لحظة قتله، بالرغم من مناشدة وصراخ مرشدته الاجتماعية التي كانت قريبة منه، والتي رجت الجنود ألا يقتلوه.
أكد رواية والد الشهيد روايتان غيرها، الأولى رواية المرشدة الاجتماعية للشهيد، وردة محمود، التي كانت في المكان لحظة مطاردة إياد وفراره إلى مكب النفايات هرباً من الجنود، إذ تؤكد أنّه كان في الإمكان عدم قتله خصوصاً أنّ لديه توحداً.
وتقول المرشدة الاجتماعية: “وقفت إلى جانب إياد وطلبت منهم عدم إطلاق النار عليه، وقلت لهم إنّ ما في حوزته هو مجرد كيس وهاتف محمول، وبإمكانهم أن يفتشوه ويتأكدوا من صدق أقوالي كمرشدة اجتماعية، لكنّ الجنود لم يستمعوا لصراخي، ووجهوا أسلحتهم نحوي وطلبوا مني أن أعطيهم المسدس الذي خبّأه إياد معي بحسب زعمهم، لكنّني قلت لهم إنّه ليس هناك أيّ مسدس، وبالرغم من ذلك أطلقوا الرصاص على إياد وسط صراخي عليهم: توقفوا، توقفوا”.
أما الرواية الثانية فجاءت على لسان أحد أقارب الشهيد، الذي يقول “إنّ إياد “لديه بطء شديد في النمو، مع سمع ضعيف، كما أنّ لديه إعاقة ذهنية، وبالتالي عندما ناداه جنود الاحتلال، أصيب بحالة من الهلع، ما جعله يركض، فأطلق عليه جنود الاحتلال عشر رصاصات، ما أدى إلى استشهاده على الفور”.
وكان والد الشهيد وعدد من أفراد عائلته أمضوا يوم الأحد الماضي 31 حزيران/يونيو، أكثر من عشر ساعات قرب معهد الطب الشرعي الإسرائيلي “أبو كبير” في انتظار الانتهاء من تشريح جثمان نجله، ويقول والد الشهيد “انتظرنا ساعات طويلة حتى أبلغونا عند المساء، وبعدما انتهوا من تشريحه بأنّه سيتم تسليمه ليلاً شريطة عدم الصلاة عليه في المسجد الأقصى، حيث تم دفنه في مقبرة المجاهدين في شارع صلاح الدين.
أثارت هذه الجريمة غضب وإدانة المقدسيين والفلسطينيين بشكل عام، واندلعت العديد من الاحتجاجات والمظاهرات المنددة بهذه الجريمة البشعة، في عدد من المدن الفلسطينية بما فيها داخل أراضي عام 48، وأدانت الجريمة أوساط عربية ودولية أخرى، ووصف المنسق الخاص للأمم المتحدة لعملية السلام بالشرق الأوسط نيكولاي ملادينوف، استشهاد الحلاق بـ “المأساة التي كان يجب ومن الممكن تجنبها.
أمام هذه الوقائع والشهادات الحية التي أكدت إعدام الشهيد بدم بارد من قبل قوات الاحتلال، اضطرت سلطات الاحتلال إلى تشريح جثمانه، الذي أجري في معهد الطب الشرعي الإسرائيلي في “أبو كبير” بمشاركة طبيب فلسطيني. حيث أكد التشريح زيف رواية القاتل، الذي ادعى أنه استهدفه في أسفل جسده، وتبيّن أن الشهيد الحلاق قضى بعيارين ناريين أصاباه وسط جسده. وأظهر التشريح أن رصاصتين من بين 7 أطلقت على الشهيد الحلاق اخترقت مركز جسده، وأصابتاه بمنطقة قاتلة، وبيّن التشريح أن أحد الأعيرة النارية اخترق أسفل بطن الشهيد وخرج من مؤخرته، في حين أصابه العيار الثاني من جانبه واستقر أسفل العمود الفقري.
كشف التحقيق الأولي الذي أجرته وحدة التحقيق مع أفراد الشرطة (ماحاش)، أن أحد عنصري قوة “حرس الحدود” التابعة لشرطة الاحتلال الإسرائيلي المتورطين بإعدام الشهيد إياد الحلاق، استمر بإطلاق النار على الشهيد الحلاق وهو ملقى على الأرض، رغم تلقيه أمرًا مباشرا من قائده بالتوقف. وجاءت أقوال القاتلين متضاربة خلال التحقيقات، فادعى القاتل الأعلى رتبة أنه أمر عنصر شرطة “حرس الحدود” الذي رافقه أن يتوقف عن إطلاق النار ولكن الأخير استمر على الرغم من الأمر المباشر.
في المقابل، نفى الأخير أن يكون قائده قد أمره بالتوقف عن إطلاق النار. وأشارت هيئة البث الإسرائيلية (“كان”) إلى أن محققي “ماحاش” أطلقوا سراح الضابط بشروط مقيدة، فيما فرضت الحبس المنزلي على القاتل الأدنى رتبة. ووفق التحقيق الأولي للشرطة الإسرائيلية، “حاولت عناصر الشرطة إيقاف الشاب الفلسطيني للاشتباه في أنه يحمل مسدسا في يده، لكنه خاف منهم وشرع بالفرار، فبدأوا بالصراخ ‘إرهابي إرهابي‘ وقام شرطيان آخران بإطلاق من 7 – 8 رصاصات تجاهه، ليتبين لاحقَا أنه لم يكن مسلحًا”.
وأخيرا أقرّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يوم الأحد الماضي 7 حزيران/ يونيو، بإعدام الشرطة الاسرائيلية الشاب الفلسطيني إياد الحلاق، من ذوي الإعاقة، رميا بالرصاص، خلال الجلسة الأسبوعية لحكومته، وفق ما أوردته صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية. وقال نتنياهو “ما حدث لإياد الحلاق مأساة، هذا شخص ذو إعاقة، توحّد، كما نعلم تم الاشتباه فيه بطريق الخطأ على أنه إرهابي في مكان حساس للغاية”. وطالب نتنياهو وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي أمير أوحانا، بالإشراف على التحقيق الجاري في استشهاد الحلاق.
أمام الأدلة الدامغة على جريمة القتل العمد بدم بارد التي ارتكبتها قوات الاحتلال، بحق الشهيد اياد الحلاق، والتي توصف بانها جريمة ضد الإنسانية بموجب المادة الخامسة من النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ، هل سينال الجناة العقاب الذي يستحقونه، أم سيلفت هؤلاء المجرمون كما أفلت غيرهم من حكم القضاء الإسرائيلي غير النزيه؟، الأمر الذي يقتضي ملاحقتهم من جديد، ومحاكمتهم لدى المحكمة الجنائية الدولية صاحبة الاختصاص الموضوعي بموجب المادة الخامسة، والاختصاص التكميلي بموجب المادة الأولى من نظامها الأساسي، حتى لا يفلت هؤلاء المجرمون من العقاب.
*محاضر جامعي في القانون الدولي.