بقلم: علاء الدين أبو زينة
“زعموا أن ناسكاً اشترى عريضا ضخما ليجعله قربانا، فانطلق به يقوده فبصر به قوم من المكَرة، فأتمروا بينهم أن يأخذوه من الناسك. فعرض له أحدُهم فقال له: أيها الناسك، ما هذا الكلبُ الذي معك؟ ثم عرض له الآخر فقال لصاحبه: ما هذا ناسك، لأن الناسك لا يقود كلباً. فلم يزالوا مع الناسك على هذا ومثله حتى لم يشك أن الذي يقوده كلب، وأن الذي باعه إياه سحرَ عينَه، فأطلقه من يده، فأخذته جماعة المحتالين ومضوا به”. (العريض: ابن المعز إذا مضى عليه حَول).
هذه القصة المكثفة البارعة من كتاب “كليلة ودمنة” تلخص قصة فلسطين. فقد تغيّر تعريف هذا البلد المنكوب في وقت قصير جداً في عمر الزمن، واختُزل من سيف عريض النصل على ساحل البحر إلى مجرد نقاط على خريطة.
وقد يقيسُ المرء توازن القوى، فيقبل بجزء من حقه. لكن من غير المفهوم أن يصف هو نفسه هذا بأنه “عادل”. منذ عقود، عُوّمت عبارة “السلام العادل والشامل” لتصف ترتيباً معروفاً للقضية الفلسطينية. وعادة ما أتبِعت هذا العبارة بنعوت وتفسيرات: “كخيار استراتيجي”، و”يُرضي كافة الأطراف ويؤدي إلى التعايش السلمي”.
وردد العرب – وفلسطينيون- هذه اللازمة حتى استقرّت في الوعي، وأصبح مقبولاً على نطاق واسع أن كيانا فلسطينيا غير سيادي على جزء صغير من فلسطين، ومن دون عودة اللاجئين، هو “الحل العادل، والشامل والنهائي” الذي أوصى به الحكيم.
قد يُقال عن هذا شيء مثل “سلام والسّلام” أو “سلام أيّ كلام”. وحتى هذه الأوصاف فيها مغالطة، فـ”السلام” ليس هو ما سيختبره الفلسطينيون من هذا –سواء عاشوا في “دولة كانتونات” محاصرة في الضفة وغزة، أو أصبحوا محكومين بالنفي الأبدي بتجريدهم من حق العودة، أو عاشوا غرباء معزولين بلا حقوق تحت حكم الكيان في فلسطين التاريخية. ما “العادل” في أن تعطى ثلاثة أرباع فلسطين التاريخية لأجانب مواطنين في دول بعيدة عن جد، لمجرد أنهم يهود، وعلى حساب الفلسطينيين؟
وما “الشامل”، حينُ يحرم معظم الفلسطينيين، أصحاب الأرض بالتاريخ والوثائق، من العودة إلى الأبد، بينَما يُمنح حق “عودة” شامل لكل شخص أمُّه يهودية إلى مكان ليس فيه شيء؟ وأين “السلام” في هذا وذاك؟ بأي معنى سوف “يرضي (هذا) كافة الأطراف ويؤدي إلى التعايش السلمي”؟ من الواضح أن “الأطراف” تعني الجميع ما عدا الفلسطينيين، وأن “التعايش” سيكون بين خاضع وسيد.
وقد عبّر، حتى الرئيس الفلسطيني نفسه، المغرمُ بعبارة “السلام العادل والشامل”، والقابل بـ”دولة” عزلاء ومحاصرة ومقطعة الأوصال، عن ماهية هذا “العادل الشامل”، حين قال: “رضينا بالبين والبين ما رضي فينا”. ولعل هذا الوصف هو أصدق ما قاله الرئيس على الإطلاق: إنّ ما تقبل به القيادة الفلسطينية هو “البين”، وليس “السلام العادل والشامل”.
كان ينبغي أن يكون بعض “السلام” –حتى مع أنه غير عادل ولا الشامل- دولة على أساس القرار 242 وعودة اللاجئين على أساس القرار 194، خيارا تكتيكيا وليس “استراتيجيا”. وإذا اقتضى المكر السياسي عدم المجاهرة بذلك، فلا داعي لتكرار أن هذا “خيار استراتيجي” بطريقة تشبه غسيل مخ الناسك وإقناعه بأن الماعز كلب. وكذلك حال وصف فلسطين مُختصَرة على أراضي 1967، ثم الأقل منها بأنها السلام العادل والشامل والنهائي. كانت هذه سقطة تراجيدية في الخطاب. إنه ليس دبلوماسية وإنما ثرثرة مكلفة وغير مطلوبة.
وإحدى نتائج تكرارها هي ترسيخ تعريف متصاغر لـ”فلسطين” لا علاقة له بتعريف فلسطين. كل ذلك في مقابل خطاب العدو غير المتوقف عن “الوعد الإلهي” و”أرض الميعاد” والذي بنى عليه إعلاناته، فاستراتيجيته، فعمله على الأرض. وقد كرره إلى حد جعل العالم كله يعتقد بأن الماعز كلب. أما جماعتنا، فغيروا روايتنا لتؤيد روايتهم بلا مقابل. بل إنهم يجعلوننا نتصور أن أحداً خدع عيننا وباعنا فلسطين التاريخية، فأطلقناها ليأخذها “جماعة المحتالين”.
فما “السلام العادل والشامل”؟ سوف يبدو التعريف متطرفا لوعي مختطف أقنعه التكرار بأن عريضه كلب. السلام، العادل، والشامل، والدائم، هو: فلسطين التاريخية لكل الفلسطينيين، في دولة ديمقراطية بالكامل، حيث اليهود – مثل الآخرين – مواطنون على قدم المساواة، بنفس الواجبات والحقوق.
سيكون ذلك عادلا، نسبيا، للفلسطينيين، مع المسامحة بألم عقود. وسيكون أكثر من عادل لليهود، الذين سيكون لهم وطن ولن يعودوا من حيث أتوا. وخلاف ذلك طباق خداع الناسك، فحسب.
عن “الغد” الأردنية