للوهلة الأُولى، تبدو لك سلام امرأةً عاملةً كغيرها من العشرات اللاتى يسعين فى الأرض لكسب الرزق الحلال بطرق شتى، إلا أنك حين تعرف قصتها ستدرك أن لكل امرأة قصتها الخاصة التى لا تتكرر، وإن تشابهت مع كل امرأة فلسطينية في “الكفاح” والرضا والقدرة على التحمل.
سلام ماضي (أُم رامي) البالغة من العمر (40عامًا)، زوجة الشهيد خالد طه ماضي، لم تمتلك من الدنيا سوى بيت صغير في مدينة سلفيت، تعيش فيه مع أبنائها (ثلاثة أولاد وبنت).
وتقول في لقاء مع”القدس”: كنت من أسعد النساء حتَّى استشهد زوجي، فضاقت بي الحياة، وأصبح مشهد الموت يُلاحقني بعدما فقدت زوجي والأمان والسَّند بعد أن أعدمته قوات الاحتلال بدمٍ بارد، إذ كانت تطارد مواطناً مطلوباً لديها عام 2004، وأطلقت عليه الرصاص وهو أمام دكانه ليرتقي شهيداً بين يديّ، واضعاً أطفالنا أمانة في عنقي.
حكاية استشهاد الزوج
وتعود سلام لى سنوات العمر الماضية، وإلى تلك اللحظة القاسية لتروي لنا حكاية الشهيد خالد ماضي وهو يعمل في دكانه الصغير ليكسب قوت أولاده ويؤمّن لهم كفاف يومهم، جلست سلام متكئة على الكرسي تحاول استجماع قواها، لا ذاكرتها، لتحكي لنا المشهد يوم الثامن من آذار عام 2004، بأنفاسٍ متقطعةٍ وغصةٍ مكتومةٍ خرج صوتها من حنجرتها بنبرةٍ تُبكي الحجر، ودموعها تتماوج في مقلتيها لئلا تفر على وجنتيها.
تنهدت وقالت: في ذلك اليوم الذي لا يُنسى كان الخبر كالصاعقة التي ضربتني، فقد كان زوجي عائداً من صلاة العشاء إلى الدكان، وكنت أنتظره، وقف خارج الدكان ينتظر رامي الذي ذهب لإحضار الخبز لنا، وفجأةً امتلأ الشارع بقوات الاحتلال الخاصة، بذريعة القبض على مطلوب، وسمعنا صوت الرصاص ينهال كقطرات المطر، لم تمر ثوان حتى دخل المنزل، يناديني “صاوَبوني، صاوَبوني”، هرعت إليه غير مدركة ما يجري، معتقدة أنها دعابة منه، وأمسك بي بكلتا يديه، وكأنه يستغيث بي لأنجده، وكأني طوق نجاته الوحيد، حتى شعرت من هول إصابته وشدة ألمه ووجعه أنه مزق لحمي بيديه، وسقط على الأرض لينادي اسمي، وأسمعه منه للمرة الأخيرة يقول: “سلام، الأولاد أمانة برقبتك”.
وتضيف: وعدته بأن الاولاد أمانة عندي وفي رقبتي، وأنني قبلتُ أمانته، ثم سقط على الأرض هامداً بلا حراك، لم ينبس ببنت شفة، انعقد لسانه عن الكلام، وتوقف جسده عن الحراك، لم أدرِ ماذا أفعل، خرجتُ إلى السوق هائمةً على وجهي أصرخ وأُنادي على مغيث ينجدني فيما حلّ بي، فوجدت جنود الاحتلال يملأون المكان ويمنعون الشبان والسكان من الحراك، ولا أحد استجاب لندائي وطلب سيارة إسعاف، حتى غادر الجنود بعد خمس عشرة دقيقة، وكان رصاص الدمدم تفجَّر في بطنه واستشهد.
سكتت قليلاً، ومسحت بيديها المتعبتين من الحياة دموعها، وقالت: الحمد لله. ثم أردفت بعد أن توجهت لألحق به إلى المستشفى، سمعت مكبرات الصوت في مآذن الجوامع تنادي باسمه: خالد طه ماضي، فأدركت يقيناً أنه استشهد ورحل إلى الأبد رحمه الله.
تغيير جذري في مسار الحياة
تمتمت سلام مع نفسها وصمتت محاولةً التقاط أنفاسها وتجميع قواها التي خارت عند العودة إلى حكايتها من البداية، فبالرغم من صعوبة ما مرت به وما تجرعته في ذلك الموقف، فإن واقعها الصادم كان مفصلياً في حياتها ومهماً، كونه شكّل نقطة تغيير جذرية في مصيرها، ورسم خطوطاً لمستقبلها الذي تكلل بالنجاح، وكان الأرض الصلبة التي وقفت عليها مرتكزة بكل قوتها لتنطلق في حياتها إلى الأمام، وتكون قصة نجاح وعزيمة ملهمة لغيرها من النساء، فالاستشهاد والمعاناة تتكرران في كثيرٍ من البيوت الفلسطينية.
وتتابع سلام: إن الحياة صعبة جداً، فأنا لم أُكمل السنة الثامنة من زواجي معه، وكان العبء كله عليه، حتى الأولاد كانوا مسؤوليته، فهم طيلة النهار معه، وهو يعتني بهم، وكان ما حلّ بنا واستشهاده وغيابه عنا كالحلم، وكنت ثكلى بجراحي النفسية والآلام التي تجرعتُها وأطفالي، فقد فقدوا والدهم، وأصبحوا أيتاماً، كان من الصعب عليّ حتى التفكير بما سيحدث، حتى شعرتُ أنني مشلولة، ويوماً تلو الآخر تهيمن عليّ الأفكار السلبية والضعف، إلى أن عقدتُ العزم بعد ستة أشهر من هذه الحالة والناس ما زالو يملأون منزلنا لمواساتي والوقوف إلى جانبي لأنني ضعيفة، على أن لا أخضع للظروف، وأن أكون قويةً وأواجه مصيري، فقد أصبحتُ أنا الوحيدة لأطفالي بعد رحيل والدهم.
وتضيف: وإثر ذلك، خرجتُ للعمل، على رغم صعوبة الوضع وشبه استحالته، كوني لا أحمل شهادةً جامعية، ولأن أطفالي صغار، وأنا وحيدة، إلا أنني وقفتُ على حطامي، وبدأتُ أُصارع لجلب قوتي وقوت أطفالي، إلى أن وصل ابني الصغير إلى عمرٍ يدخل فيه رياض الأطفال، و هنا شعرتُ بحريةٍ أكبر لأعمل بأكثر من مكان.
وتتابع سلام لـ”القدس” والدموع في عينيها: عندما استشهد زوجي كان عمري 24 عاماً، كنتُ أعتمد عليه اعتماداً كلياً، لدرجة أنني لا أعرف كيف أخرج من البيت من دونه، كانت لحظات الفقد مريرة وموجعة، فجأة ودون سابق إنذار أنا وحيدة، وعلى رغم حجم الفاجعة وقسوة الفقد اللتين عشتهما، فإنَّ الألم يزداد مرارةً حين أنظر إلى أطفالي (مريم 8 سنوات، رامي 6 سنوات، راني 3 سنوات، طه 40 يومًا) وقد تحوَّلوا إلى أيتام يشكون ظلم الاحتلال، غير أنني قررتُ أن أفي بوعدي لزوجي، وأن أقف على قدميَّ، ولا أستسلم، وأن أتحمل المسؤولية كاملة، فأنا الآن بالنسبة إيهم الأمان والأُم والأب.
.. وبدأت مسيرة الكفاح
وهنا بدأت مسيرة سلام من أجل أن تُربي وتعلم أيتامها الأربعة، وتضمن لهم حياة كريمة ومستقبلاً مشرقاً، لتبدأ العمل، وتُعارك الحياة وصعابها من أجل كرامة أبنائها ولتغنيهم عن الحاجة إلى الناس، فلا يوجد لديها أغلى منهم، وبالرغم من أن الحمل ثقيل والمسؤوليات على عاتقها كبيرة بين تربية الأبناء والعمل في أكثر من مكان، والصبر على فقدان “الزوج المعيل”، إلا أن كفايتها أولادها، بعيداً عن سؤال الناس، ورسم السعادة على وجوههم، خففا عليها متاعب الحياة وهمومها.
لم يقدم أي شخص على مساعدة سلام وأبنائها، فقد كانت تعتمد على نفسها لتلبي احتياجات أطفالها الأربعة، وتعد الطعام والحلويات للناس في بيتها بإمكانيات متواضعة، وتطورت الأوضاع وأصبح لديها العديد من الطلبيات والحجوز لإعداد وجباتٍ من الطعام لعائلات ومؤسسات.
وتقول سلام: هكذا بدأتُ أُطور عملي شيئاً فشيئاً، ولم أستسلم، وكنت أُلبي احتياجات أبنائي قدر الإمكان، وأرعاهم، وأكفيهم سؤال الناس.
وتضيف: بعد أن اشتهرت، وواصلتُ عملي بطهي الطعام في البيت، الذي دام سنواتٍ بعد استشهاد زوجي، قررتُ أن أُطور عملي، وأن أفتح مخبزاً من تعبي وعرق جبيني، ومن دون أي مساعدةٍ من أحد، فوفقني الله، وتمكنتُ قبل نحو ثلاث سنوات من افتتاح المخبز.
مع ساعات الصباح الأُولى تستيقظ سلام من نومها لتخرج من منزلها الساعة الخامسة، وتذهب إلى مخبزها، وتبدأ يومها الشاق لتعد من الدقيق الأبيض خبزاً طازجاً شهياً تملأ رائحته أرجاء البلدة القديمة في سلفيت، ليتوافد عليها الأهالي للحصول على فطور الصباح من المناقيش والخبز العربي، إضافة إلى أنّها تقوم في فرنها بطهي العديد من المأكولات التي يطلبها الزبائن.
وتقول سلام بملامحها المنهكة التي تطغى عليها الابتسامة وهي تروي قصة كفاحها إنها لا تعرف مكاناً آخر غير المخبز لقضاء معظم ساعات يومها، فهي تعمل فيه حتى الساعة الثانية عشرة ليلاً، ويساعدها ابنها رامي بإيصال الطلبيات على دراجته، وحين تجلس مع أبنائها بعد يوم عملٍ شاق تشعر بكلماتهم ونظرات فخرهم بها تُزيل عن كاهلها تعب اليوم ومشقته.
وحالياً تسعى سلام لتطوير عملها، وأن تفتتح إلى جانب المخبز مطعماً للماكولات الشعبية.
الإرادة سر النجاح
وتضيف أن سر قوتها ونجاحها إرادتها القوية وإيمانها بالله، فقد واجهت العديد من الإحباط والتهميش والكلام القاسي والجارح هي وأبناؤها من المحيطين بها، حتى من المقربين، ولم يقدم أي شخص لها ولأبنائها أي مساعدة، فقد كانت تعتمد على نفسها لتلبي احتياجات أطفالها الأربعة، وتعد الطعام والحلويات في بيتها بإمكانيات متواضعة، إلى أن افتتحت المخبز ووصلت إلى ما هي عليه الآن.
وأكدت دموع أم رامي قبل كلماتها أن أصعب اللحظات تلك السنوات الأُولى بعد استشهاد خالد، لأنها لم تنفك يوماً عن تخيله يقرع جرس المنزل ويدخل ليُطبطب على أطفاله ويبدد عنها وحشة الليل والخوف والوحدة، مؤكدةً أن هذا كان الحافز لها لتعمل بجد من أجل أن تفي له بالوعد الذي قطعته على نفسها بأن تُكرس حياتها لأيتامها، وتضمن لهم مستقبلهم.
وفي نهاية حديثها لـ”القدس”، تعرب سلام عن أملها بأن تُزوج أبناءها الثلاثة بعدما تزوجت أُختهم، لتشعر بالراحة التي غابت عنها سنوات مديدة.