إرادة الأمم بالانتخاب لا بالإرهاب ولا بالانقلاب

بقلم: الدكتور أحمد القديدي

لأول مرة في التاريخ العربي الحديث نشاهد على شاشات الفضائيات جماهير محبطة تحرق علم دولة عربية وتدوس على صورة حاكمها، وفي نفس الوقت آلاف العرائض والبيانات تصدر عن كل فصائل الشعب الفلسطيني والعربي بلا استثناء منددة بتلك الدولة التي كسبت لقب (المارقة) من أعلى مسؤولي فلسطين، وتصدر أيضاً عن آلاف منظمات المجتمعات المدنية العربية من مهنية ونقابية وجامعية، وفي المقابل نسجل إيغال تلك الدولة في شؤون داخلية لعديد الدول العربية بالسلاح وإغداق الأموال بغاية تغيير أنظمتها أو الزج بها في صراعات أهلية ضاربة عرض الجدران بنتائج انتخاباتها وتوافق نخبها وهو ما سماه بيان تونسي بإرهاب جديد لهذه الدولة يدعي مقاومة الإرهاب المزعوم.

وللتذكير فإن العالم العربي منذ كانون الثاني 2010 دخل في دوامة التحول الجذري مع ميلاد السياسة بمعناها الحقيقي أي عودة الوعي للإنسان العربي بأنه مواطن، فأصبح لأول مرة في تاريخه الحديث وبعد أكثر من نصف قرن من القمع إنساناً يفكر ويُعبر. هذا هو المكسب الثمين للحرية، أما انعكاساتها الجانبية والطبيعية فهي فقدان البوصلة الحضارية بعد سقوط النظام المستبد، حيث لم تولد بعد الدولة الجديدة العادلة الشفافة القوية من رحم صناديق الاقتراع بل انفتحت أبواب العنف بين المتنافسين على السلطة ودخل الساكتون على ظلم الأمس “مطهرة الاغتسال للاستحمام في طهارة كبرى” تبرؤهم من لوثة الماضي وتؤهلهم للعب أدوار أخرى في عهد جديد وغير مسبوق لم يتوقعوا قدومه بتلك السرعة فإذا بالتوانسة والمصريين والليبيين والسوريين واليمنيين جميعا يقولون: (هي ثورتنا!) وكأن الملايين منهم كانوا في عهود ابن علي ومبارك والقذافي وبشار الأسد وعلي عبدالله صالح يحملون السلاح في الجبال ويقاومون الظلم، بينما انكفأ البعض القليل من المقاومين الحقيقيين للطاغوت أيام الجمر والصبر ينظرون من بعيد لهذه التزويرات التاريخية بعيون المتعفف القنوع قائلين: لا حول ولا قوة إلا بالله اللهم سترك على هذه الأوطان.

وفي تونس التي تملك براءة اختراع الربيع العربي نكتشف أن الانطلاق من يناير2011 كان خطأ، لأنه ثبت اليوم أن الشعب لم ينتخب إلا مجلساً تأسيسياً لتحرير الدستور، فإذا به يجد أمامه حكومة بل حكومات متعاقبة ورئاسات جمهورية مؤقتة لا تعمل عمل الرئاسة وبرلماناً تفاجأ أعضاؤه أنفسهم بثقل المسؤولية حين طلب منهم أن يراقبوا عمل الحكومة، وأن يكتبوا دستوراً جديداً وأن يشرعوا القوانين، فإذا بهم يتحولون بشكل طبيعي إلى كتل حزبية تتصارع بدل أن تتحاور، وكما كان متوقعاً تعطل مسار هذا المجلس ليهدد بفراغ زاده تدخل الإمارات اتساعاً حين أصبح بعض السياسيين ينطقون بلسان أبوظبي.

وجاء الحدث المصري المزلزل يوم إقالة مرسي بعد أن تنفس المصريون الصعداء بانتخاب رئيس مدني فإذا بمصر تستفيق على انقلاب الجيش مسنوداً بخطة إماراتية وإسرائيلية وآلياتها المالية والإعلامية بل أصبحنا نخشى حرباً أهلية طويلة لا تتحملها مصر ذات الاقتصاد الهش والموارد الشحيحة والديمغرافيا العظمى، فكان الانقلاب مواصلة مأساوية لحالة فوضى عارمة، وفي تونس أطل شبح الإرهاب على شعب لم يعرف تلك الظاهرة إلا من خلال شاشات الفضائيات بسبب التجانس الطائفي والعرقي والثقافي للشعب التونسي، فإذا بنا نستفيق على جثث شهدائنا الأبرار مذبوحين وممثلاً بها ثم على حركات فوضوية متطرفة تنادي باستنساخ التجربة الكارثية المصرية على الشعب التونسي، فظللنا قلة من الناس ننادي بفضيلة الانتخاب وبمخاطر الإرهاب والانقلاب حتى لو كانت المسالك المؤدية للديمقراطية والتوافق مسالك عسيرة مليئة بالأشواك والمؤامرات فالحلول الجذرية هي دائما في التعايش السلمي مع مواطنك المختلف عنك في الرأي أو في العقيدة ولا يتم ذلك إلا بإعلاء الوطن فوق الأحزاب ورفع المصالح العليا المشتركة على المصالح الشخصية والفئوية الضيقة.

وفي ليبيا شهدنا ونشهد استفحال الصراع وتحوله تدريجياً إلى حرب أهلية بأموال أجنبية من تلك الدولة ذاتها ومن مصر وأيضاً من روسيا وأوروبا ببلوغ خليفة حفتر درجة الانفصال عن دولة تحاول أن تكون شرعية وأن تجمع فصائل المجتمع الليبي في وحدة وطنية. هكذا كتب على المواطن العربي أن يختار اليوم بين السيئ والأسوأ وبين المأساة والكارثة وبين الطوفان والزلزال، ثم باقتناعه التدريجي بأن العرب ليسوا أهلاً للحرية والديمقراطية وأن العرب شعوب تجمعهم الطبلة وتفرقهم العصا، وأن نخبهم الحاكمة والمعارضة على السواء لا تمثل سوى رؤوس أينعت وحان قطافها وأن العرب كتبت عليهم الأقدار أن يظلوا على هامش التاريخ الحديث لا يصنعون حضارة ولا يرتفعون عن بدائية أحقادهم ولا يدركون الفرق بين المهم والأهم ولا بين الصالح والطالح ولا بين الاستعجالي من القرارات وبين المؤجل من الاستحقاقات.

فالانقلاب على الشرعية مهما كانت الشرعية هشة هو فتح لباب المجهول كما حدث في مصر وليبيا والحلقة الأولى في مسلسل الانقلابات كما كان الحال في سوريا والعراق ما بين الخمسينيات والتسعينيات: عسكري يأتي بالبيان رقم واحد (أنموذج السيسي وحفتر) فيقتل ويسحل المعارضين والمخالفين والوطنيين بعد وصمهم بالإرهاب!، ويعلن أن قضية فلسطين ثانوية لأن صفقة القرن التي يدينون لها ببقائهم في الحكم أملت عليهم إرادة نتنياهو وجاريد كوشنير!، وأنهم إذا أجهضوا الثورات سيعود الأمن والرخاء!، وأن البلاد تحررت من الكابوس “الإسلاموي” ثم يليه زعيم ملهم أو ركن مهيب فيقتل القاتل ويعلن الحداد على ضحاياه معلناً الانتقام لهم من السفاح، وهكذا دواليك والشعب العربي يصفق لهذا وذاك حائراً كالشرق الحائر أمام مهزلة التاريخ.

عن “الشرق” القطرية

عن Amer Hijazi

شاهد أيضاً

العرب وإسرائيل وبناء السلام الإيجابي

بقلم:د. ناجي صادق شراب الفرضية الرئيسية التي يقوم عليها البناء الإيجابي للسلام، هي العمل على …