بقلم: عيسى قراقع*
الأسير الفلسطيني سامر المحروم سكان جنين والذي يقضي ما يزيد عن 30 عاماً في سجون الإحتلال الإسرائيلي، يقاوم السجن وظروفه القاسية بالحلم في روايته الرائعة (( ليس حلماً )).
بعد قضائه 25 عاماً في سجون الإحتلال، وقبل الإفراج عنه في صفقة شاليط عام 2011، حلم سامر المحروم بالحرية القريبة، روى الحلم على جميع الأسرى، ورواه لأمه وأشقائه وأصدقائه، صار حلم سامر بياناً ومنشوراً وفجر قنبلة في قلب التوقعات داخل السجن، تحقق حلم سامر وأفرج عنه في الصفقة مما سبب صدمة وذهول للجميع وخاصة للسجانين الذين اعتقدوا أن حلم سامر الذي انتشرت اخباره في السجن هو شيفرة سرية يشكل خطراً على أمن دولة اسرائيل، وأنه قد يكون خطةً لمواجهة قوانين واجراءات السجن، أفرج عن سامر وتزوج ورمم ذكرياته على صدى حلمه الثوري، الإنسان الميت هو الذي لا يحلم، ومن يحلم يصنع الأمل ويجترح القوة والمعجزات.
بعد عامين من الإفراج عنه اعيد إعتقال سامر المحروم ضمن الحملة المسعورة التي طالت أكثر من 65 أسيراً حرروا في صفقة شاليط وأعيد اصدار الحكم السابق عليه هو المؤبد، عاد سامر الى نفس السجن والبرش والزنزانة، ترك زوجته حاملاً بتوأم لكنها أجهضت خلال وجوده في السجن، توفيت والدته والتي سببت له حزناً شديداً شبهه بالقنبلة الفراغية التي أحرقت كل شيء في عالمه، بدأ سامر يقاوم هذا الإعتقال التعسفي الجديد مرة أخرى والظروف القاسية التي احاطت به بالحلم، استطاع حلمه أن يهرب نطفة منوية وينجب طفله البكر آدم، يقول سامر: أكثر من 30 عاماً بالقيد في كف، وفي الكف الثانية إبتسامة من آدم قادرة على ترجيح كفة السعادة والفرح.
برغم قسوة العودة الى السجن بعد قضاء سنوات طويلة، وبرغم الحرمان والآلام وفراق الأحبة، إلا أن سامر أشهر سلاح حلمه من جديد، ذلك الحلم الذي لم يتوقف وصار حقيقة، الحلم بالحرية والخلاص من قيود الإحتلال، أحلامنا ذخيرة، أحلامنا هي التي تضخ في دمنا القوة والعزيمة، يصرخ سامر متحدياً سياسة الإحتلال الإجرامية قائلاً: أيها السجن لن أدعك تتحكم بفكري وخيالي، أيها السجان ستبقى في سجنك وحيداً أنت وكل السجانين أمثالك، أنا سأحلق بفكري وخيالي بعيداً عن أجوائكم، ولن أذكركم أو اتذكركم فأنتم أموات في مقابر سجونكم.
رفض سامر المحروم أن يعيش السجن في داخله، لفظ السجن من اعماقه وحلق خارج الأسوار والأسلاك الشائكة، وصل البيت والحارة والجيران والحديقة، سمع غناء البلبل في البساتين، صوت البلبل لم يفارقه في الزنازين وغرف السجن الموصدة، أحضر سامر الوطن الى السجن فعاش فيه ومعه، مازال يروي حلمه ويقول أنه يسمع صفير البلبل وهو يغني بين الأشجار، إنه صوت الحرية والأمل الذي يقرع الأبواب والنوافذ، روى حلمه على زميله الأسير مؤيد الشيص قبل الافراج الأول، دهش الجميع ولكن صدمتهم كانت عندما أفرج عنهم ورأوا سامر بين الأشجار يسمع صوت البلابل تحتفل بعودته بنشيدها الجميل.
السجان يستطيع حبس الجسد لكنه لا يستطيع حبس الروح والإراده، يقول سامر ذلك في روايته، الروح تحرك عقارب الزمن بالفكر والخيال وبالحلم، الحلم ينقل كل الصور والمشاهد والكلمات بعيداً عن أعين وقيود السجان، العدو الأخطر بعد السجان هو الركود، الفراغ والتجمد في تفاصيل وروتين السجن، فحلم سامر يقول انه اذا سمحت للسجن بالتسيد والسيطرة عليك كأنك فتحت بوابات جسدك لتحتل من الداخل وهي أسوا هزيمة وأشد من السجن ذاته.
حلم سامر كسر نظام السجن واجراءاته واهدافه، تسع آلاف ومائة وخمسة وعشرون صباحاً لا يختلف الأول عن الأخير شيئاً، أصوات طرق الأبواب وقرقعة المفاتيح والأقفال والمزاليج، جلبة طاقم السجانين أثناء العدد والدق على الشبابيك، السجن ليس فقط مصادرة حرية الانسان، السجن هو جعل حياتك ليس حياة بشرية وانسانية، حياة ليس لها أساس ولا غد، وإنما طولها يوماً واحد هو بالتحديد ذلك اليوم الذي تحياه، حلم سامر المستمر يشتبك على مدار الساعة مع تفاصيل هذا السجن وتصاميمه ونظامه ويتغلب عليه.
سامر المحروم من خلال روايته بنى روابط وصلات مع الزمن والذكريات والواقع، الحلم عابرٌ للزمن يمنع السجن أن يحتل الوعي، حلم سامر هو الإيمان واليقين والانتماء وفلسفة الحرية، الأسرى ماضون في استعادة انسانيتهم وان جوهر وعيهم هو الوجود مع العالم، خرجوا بهذا الوعي خارج الأسوار وتنفسوا، اعطوا لنضالتهم وتضحياتهم معنى، ولذاكرتهم حياة حافلة.
عندما قرأ السجانون مخطوطة سامر ( ليس حلماً) وما وقع بين أيديهم من روايات ورسائل وقصائد وأغاني وخواطر وافكار تتحدث عن المستقبل واليوم القادم، حوارات مع أبناء شعبهم ومشاركة في همومهم وقضاياهم، عواطف وحنين ورؤى تتحدى الحشر والجدران الصماء، تساءل حينها السجانون: هل هؤلاء الأسرى فعلاً داخل السجن؟
سامر المحروم في روايته ليس حلماً يتحرر من كل القيود الفكرية والاجتماعية والمادية، لم يسمح للسجن أن يقلص أفكاره أو يجمدها أو يصهرها، يقول: إن الانسان الاسير يستطيع أن يحتفظ ببقية من الحرية الروحية ومن استقلال العقل حتى في تلك الظروف المريعة من الضغط النفسي والمادي، قدراتنا ليست مشلولة عن الخلق واعادة الخلق، فالتحرر يبدأ بالحلم ثم هذا الحلم يدخل في مخاضٍ ثم في ولادة، وإن كانت ولادة مؤلمة لكنه يتمخض عنها إنسان جديد يطل على الحياة.
رواية ليس حلماً تقول على لسان سامر: أنا مؤمنٌ أن الحرية ليست مجرد شعار أو راية ترفع على بناية، وانما تكون بالتحرر النفسي والثقافي من عقد الهزيمة التي يحاولون زرعها في الأجيال القادمة.
رواية ليس حلماً للأسير سامر المحروم تردد ما قاله أحد الفلاسفة: لا تخف من المسافة بين الحلم والحقيقة، فما دمت استطعت أن تحلم بشيء فبإمكانك تحقيقه.
*عضو المجلس التشريعي، رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين السابق