آمالنا في زمن ما بعد كورونا

22 أبريل 2020آخر تحديث :
آمالنا في زمن ما بعد كورونا
آمالنا في زمن ما بعد كورونا

بقلم: عوض عبد الفتاح

لا نرى قصفًا ولا مدنًا مُهدّمة ولا أكوام جثثٍ، ولا مشاهد أطفال يُنشلون من بين الأنقاض، في “الحرب” غير المرئية التي نعيشها الآن. يموت بعضنا، ونعيش جميعًا رعبًا دون أن نرى القاتل أو المعتدي. كما لا نرى فيها الضحايا والإصابات إلا نادرًا. فما يجري داخل المستشفيات من مأساة مروّعة، لا تعرضه الفضائيات. ولا يرافق هذه الحرب تحليلات عسكرية ميدانية، أو تقييمات لميزان القوى، ومن سيكون المنتصر ومن يكون المهزوم. مع ذلك، يعيش الجميع سواء المتخم أو متوسط الحال أو المعدم، حالة من الرعب. وحتى الآن لا يعرف أحدٌ كيف ستنتهي هذه المحنة التي طالت كل زاوية على الكرة الأرضية، وما حجم الخسائر البشرية والمادية، والتداعيات الاجتماعية.

ومن المفارقات، والمؤلم، في ظل النظام العالمي الراهن اللاأخلاقي أن تتواصل جرائم الإمبراطورية الأميركية في العراق أو أفغانستان؛ وأميركا ومؤامراتها في أميركا اللاتينية، أو جرائم الإمبريالية الروسية حليفة المستعمر الإسرائيلي التي تختبر أسلحتها الحديثة على شعبنا العربي في سورية، أو جرائم الطائرات السعودية والإماراتية في اليمن، وفي ليبيا؛ أو جرائم الاحتلال الإسرائيلي الذي لا تتوقف ماكينته الاستعمارية الإجرامية ضد فلسطين وشعبها.

وبعيدًا عن المثالية، فإن هذه الجرائم التي تمارسها أنظمة استعمارية أو استبدادية، ليست أحداثًا عرضية بل بنيوية، وهي تمظهرات البنية الإجرامية لتلك الأنظمة. وألاّ يظننّ أحدٌ أنها قابلة للتغيير أو للمحاسبة الذاتية، من دون فعل مضاد يتجدد ويستمر ويرتقي في المستوى والتأثير.

هكذا يجد الإنسان نفسه بين عدويين؛ وهي ليست المرة الأولى التي يقف وجها إلى وجه مع هذه الحالة، بل إن هذا ما يقصه التاريخ علينا.

العدو الأول؛ الطبيعة، ولا نعتبرها عدوًا إلا مجازًا، إذ هي ليست كائنًا عاقلا، وليس لها نوايا شريرة، وعن سبق إصرار، ضدنا.

هي مصدر عيشنا وبقائنا، بجبالها وسهولها ومواردها وهوائها. هي تغضب، وأيضًا بالمعنى المجازي، فنتعرض لزلازلها وبراكينها وعواصفها وفيضاناتها، ولأوبئتها. وتكون نتائجها كارثية، فتقتل وتجرح وتُشرد وتُفقر، لكنها لا تترك ضغائن ولا أحقاد بين الشعوب. بل في أحيانٍ كثيرة تضطر الحكومات، أو الطبقات الحاكمة، إلى إجراء تعديل على سياساتها، شكلية أو جوهرية، لتفادي أو لتقليل الخسائر البشرية والمادية في مواجهة كوارث قادمة. ومنذ لحظة وجود الإنسان على الأرض، كان ولا يزال في تفاعلٍ معها، مع الطبيعة، فوفر منها حاجته الغذائية والحماية من طقسها وكوارثها. ولكنه مدفوعا بجشعه، بغرور مفرط، ظن أنه قادر عليها السيطرة عليها. فأساء إليها ولوثها، ويكاد يستنزف مواردها ولا يبقي شيئًا للأجيال القادمة.

العدو الثاني؛ الإنسان نفسه، والأدقّ الطبقات الحاكمة، التي تحوّل الأكثر قوة من بينها في العصور الحديثة، إلى عصابات مافيوية تتحالف مع الشركات والرأسمال المتوحش، الذي كدس السلاح بصورة خيالية وتفنن في آليات السيطرة، الناعمة والخشنة، وحول الإنسان، القادر، إلى كائن اقتصادي مستهلكٍ نهم، وحوّل الناس الفقراء، وههم الأكثرية الساحقة، إلى شرائح أشدّ فقرًا وحرمانًا.

حقق الإنسان إنجازات مذهلة لصالحه، ولصالح الحياة على الأرض، في القرون الثلاثة الماضية. وفي العقود الثلاثة الأخيرة أوجد إنجازات لم يكن يستوعبها العقل، من حيث دقتها وسرعة تنفيذها للمهمات.

غير أن المجتمع الأوروبي نفسه، الذي قاد هذا التطور الحضاري المذهل، وقع ضحية حداثته، وتكشّف فيه وجه وحشي، فضلا عن وجهه التنويري. فهذا المجتمع نفسه، خاض حروبا داخلية دموية مرعبة (الحربان العالميتان، الأولى والثانية)، تشبه حروبه في العصور الوسطى، وتلك التي اشتعلت في مرحلة الانتقال إلى ما عرف بعصري النهضة والتنوير. تبعت هاتين الحربين فترة ازدهار اقتصادي واستقرار، وتحررت شعوب عديدة من الاستعمار، ووُلدت منظومات تحمي حقوق الإنسان، ونشأت أنظمة دول الرفاه في العديد من الدول ألأوربيه، غير أننا عدنا وشهدنا انحدارًا جديدًا في سلوك النظام العالمي، نحو تكديس الثروات في أيدي قلة قليلة، وانحسار الديمقراطية التمثيلية وموت السياسة لحساب الشركات الاقتصادية الكبرى، ونمو الشعبوية اليمينية، وعودة الحروب الإمبريالية المباشرة، والحروب البينية الإقليمية المتفرعة عنها.

منذ أيقنت البشرية حجم الخطر الوبائي الحالي، ووجدت نفسها أمام المفارقة الكبرى ألا وهي تحوّل العولمة، التي وصفها أنصارها بأنها تقرب المسافات بين البشر، إلى أداة مُسّهلة للموت الجماعي. والمفارقة الأكبر هو عجز العولمة، أو تحديدًا الطبقات المهيمنة على النظام العالمي الجديد، عن الدفاع عن شعوبها رغم ما تمتلكه من ثروة، وتكنولوجيا في غاية التطور، وأسلحة فتاكة. وهذه المفارقات، وبالأحرى هذه المصائب، أطلقت خيال الكتاب والمفكرين والشعراء، والباحثين، نحو إعادة التأمل في كنه هذا النظام وجدوى بقائه، بل ذهب البعض إلى النظر مجددًا في معنى الوجود، ومعنى الإنسان، في علاقته مع الطبيعة ومع أخيه الإنسان. واستحضر البعض مصائب مشابهه حصلت في الماضي، سواء المتمثلة في الحروب الشاملة أو الأوبئة المعدية الفتاكة، وغاصوا في روايات وجودية تتحدث عن عبثية الحياة على الأرض. وتتميز كل هذه الكتابات بالرغبة أو بتوقع تبدّل جذري في سلوك الأفراد وفي سياسات الدول. والأهم، كثفوا من استحضار أفكار العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة، والمبادئ الاشتراكية، والالتفات مجددًا إلى الحراكات الاجتماعية والاحتجاجية، التي تلاحقت واتسعت موجاتها.

وهذا ردّ فعل طبيعي، إذ إن المراجعة الذاتية، سواء كأفراد أو جماعات، هي بمثابة تعبير عن التمسك بالحياة او عن واجب أخلاقي نحو الذات والمجتمع. وفي هذه الحالة، كما الحالات المشابهة التي حصلت في الماضي، فإن المراهنة على التغيير هو على الأفراد أو المجموعات الأكثر وعيًا، ومعهم الشعوب لأنهم أصحاب المصلحة المباشرة في تبديل الحالة الراهنة، وهزّ أركان النظام العالمي المتوحش، الذي يستند إلى بنية معقدة من السيطرة.

عن “عرب ٤٨”