من هذا القاتل ومن هم عرب الـ48؟

25 ديسمبر 2020آخر تحديث :
من هذا القاتل ومن هم عرب الـ48؟
من هذا القاتل ومن هم عرب الـ48؟

بقلم: عامر الهزيل

لم تتغير الأوضاع كثيرًا تلك التي قادت إلى النكبة كما صورها قسطنطين زريق في كتابه “معنى النكبة” الصادر في آب 1948. فالهزيمة في عمقها التاريخي لم تكن بسبب قلة العدة والعتاد على أهميتها بل لأنّ الصدام كان بين مجتمع صهيوني استعماري حديث جذوره في حداثة أوروبا ودعمها ومجتمع تقليدي متخلف يجترّ أسطورته بعبثية تاريخية تراجيدية حتى في أوج مدنيّته حكمته القبيلة والحمائلية التي انساقت على الحزب والثورة حتى أجهضتها ماضيًا وحاضرًا.

استفرد الاستعمار الإسرائيلي التهويدي بعرب الـ48 واستهدفهم بعملية سلخ مبرمجة عن ذاتهم وشعبهم وأمتّهم في ثلاثة محاور؛ الأول: الأرض والذاكرة التاريخية للحيّز؛ الثاني: مناهج التعليم واللغة العربية ودورها في تشكيل الثقافة والوعي الفردي والجماعي؛ الثالث: في استبطان القيادة والنخب وشريحة الوسط ودمجهم الانتقائي في مؤسسات الدولة، بما فيها الكنيست وإن ارتفع صراخ خطاب أعضاء الكنيست، فما له جدوى هو ما ارتجته وترتجيه الدولة العميقة في تسويق وتعميم وجهها الديمقراطي.

وإن كان هدف الدمج الانتقائي ربط مصير ومعيشة المهني الموظف بما فيهم المعلم/ة ومدير المدرسة وضمان تبعيته والتحكم في موقفه، فإنّ العزل الانتقائي للقوائم السوداء الخارجة على وشم الدولة قصد نفس الغاية. في هذا السياق، ما عجزت عنه الدولة قامت به صناديق الدعم العالمية وأكثرها يهودية حين دمجت واستقطبت الكثير منهم في الجمعيات المختلفة. هكذا حيّدت إسرائيل الطبقة الوسطى التي تمثل تاريخيًا العمود الفقري لحراك المجتمعات وتطويرها. بكلمات أخرى عزل الاستعمار الإسرائيلي بين النخب وقيادة الوسط والعامة وبينها وبين نفسها. في وقت فُرض التحديث القسري كحالة حرق مراحل انهار معها المبنى المجتمعي على المستوى العمودي والأفقي بشكل انهارت فيه قيم توازن الردع المجتمعي ومعها القيادة الاجتماعية التي فرضته دون بديل قيادة وسط تتقدم الصفوف وتشكّل بوصلة لطريق المستقبل، الأمر الذي قاد إلى أزمة أهمّ: معالمها ضعف دور الأسرة والمدرسة كأهم مؤسستين تربويتين.

فالأسرة غدت ترعى ولا تربّي والمدرسة تركّزت في التحصيل وغيّبت بلورة الهوية الجماعية وزرع القيم ومعها هدم اللغة العربية بما تعنيه لفهم المقروء والقدرة على الإبداع والجاهزية لعالم روحه تكنولوجيًا، وكورونا، وامتحانات “البيزا” العالمية للغة الأم وفهم المقروء فضحت المستور. هذه الحقيقة تنعكس في تطوّر لغة ثالثة في أوساط عرب الـ48، نطلق عليها “العربريت” وهي خليط من العربي والعبري. نعم هنالك قطاع كبير، وخصوصًا الطبقة الوسطى الموظّفة، فقدَ قدرةَ التعبير عن نفسه بالعربية حديثًا وكتابةً دون الاستعانة بالعبرية، نحن شهّاد على حالة احتلال وعبرنة اللسان الفلسطيني بنفس الوتيرة التي فُرنس فيها اللسان الجزائري وإن لم يكن أسرع. طبعًا هنالك تفاوت بين منطقة وأخرى. حالة تحول النفس والمجتمع إلى حد الانفصام والغربة وأفضل من يسلط الضوء على فهمها فرانز فانون في كتابه الرائع “بشرة سوداء وأقنعة بيضاء”.

يفكّك فانون المرحلة الكولونيالية من خلال مفهوم الاغتراب الذي “يرتبط بشعور الإنسان بالانفصال والغربة عن واقعه وذاته. يشعر أنّه لا يستطيع التحكم في مصيره ولا يملك القوة لمواجهة الكيانات الأخرى التي تحكم هذا المصير. الأمر الذي يقود المغترب هذا إلى الشعور بعدم وجود قاسم مشترك بينه وبين مجتمعه ولا معنى لحياته فيه”. واقع يقوده إلى تقمص شخصية مُستعمِره متوهمًا أنّه يشبهها وتشبه. غير أنّ الأخطر في مظاهر الاغتراب هو ضعف لغة الأم (احتلال اللسان) وتماثل المُستعمَر تدريجيًا مع لغة مُستعمِره حديثًا وأفكارًا، تصوّرًا منه أنّه يرتقي لمستوى خصوصية حاكمه إذا ما تحكم بلغته. وعليه، فإنّ اللغة في هذا السياق، بحسب فانون، تصنع عقدة النقص والدونية لأنها مفروضة كمفتاح نجاح. وأبعد من ذلك، يؤدّي “الخضوع الكولنيالي” هنا إلى انفصام في الشخصية الاجتماعية والفردية فالمُستعمَر (المحكوم) لديه وجهان في تعامله ومسلكيته. الأول مع محيطة المجتمعي والثاني مع مجتمع ومؤسسات الاستعمار.

نظرة متفحصة لواقع عرب الـ48 تجد أنّ هنالك من اندمج من بين غير المسيّسين في دورة العمل والحياة اليومية الإسرائيلية ويعاني من الدونية في محيط خضوعه الكولونيالي. في المقابل، يتنافخُ كبرياءً مع عودته إلى مجتمعه كتعويض عن مهانة الشعور والدونية وإنْ أنكرَ هذا الانفصام وحاول الهروب منه وتمويهه تحت راية الحيادية المهنية. ظاهرة الدونية هذه تمتد أبعد إلى الكل المجتمعي في لقائه مع مجتمع الشعب السيد اليهوديّ كجماعة وأفراد. التعويض المرضي هنا يعبّر عن نفسه في حالة انتفاخٍ وتعالٍ موزعة مناطقيًا وحمائليًا وطائفيًا بين بعضهم البعض وبين باقي شعبهم الفلسطيني من الضفة وغزة تحت مسميات ضفاوي وغزاوي، كتجلٍّ تراجيدي لحالة الانفصام والخضوع الكولونيالي والتي نطلق عليها وجوه فلسطينية أقنعة إسرائيلية.

وإنصافًا للتاريخ، تحدّث ابن خلدون عن ذلك في قوله:

“المغلوب مولعٌ أبدًا بالاقتداء بالغلب في شعاره وزيه ونِحلته وسائر أحواله وعوائده.. والسبب في ذلك أن النفس أبدًا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه”، نظرية ساقها مالك بن نبي في حلّتها المعاصرة تحت عنوان “القابلية للاستعمار”.

في هذا السياق، واستكمالًا لذلك ولعملية الهدم التي أدى إليها التحديث القسري في ظلّ الخضوع الكولنيالي و”قابلية الاستعمار”، استغلّت إسرائيل المبنى الاجتماعي التقليدي وغلبة الولاءات القبلية، الحمائلية، الطائفية والمذهبية على الولاء الوطني في ظلّ غياب الوطن نفسه، لتعزيز سيطرتها من خلال تعميم الحالة وتوسيعها بخلق مشيخات ومخترة جديدة. لكن الأخطر على الإطلاق هو توصية أذرع الأمن الإسرائيلية بإجراء انتخابات للسلطات العربية المحلية واستغلال غطاء الديمقراطية هذا لتغذية هذه النعرات وفق قاعدة “عد رجالك ورد المي” وحكم الحمولة والقبيلة للقرية والمدينة، وإن لبست قناع الأحزاب والحركات والقوائم العصرية لتصل إلى سدة الحكم. هكذا أوجدت إسرائيل حالة استدامة وتكرار التفتيت كل خمسة سنوات… نعم، كل دورة انتخابات للسلطات المحلية.

وإن كان هذا لا يكفي، فإنّ هدم إسرائيل مقومات الاقتصاد العربي وربطه بعجلة الاقتصاد الإسرائيلي كأيدٍ عاملة على الأغلب خلق واقعًا أفقر المدن والبلدات والقرى في إسرائيل. واقع العوز والفقر هذا، مع كل العوامل التي ذكرت أعلاه، كان دفيئة تفاعل الأزمة التي نمت تحت أعين أهلها إلى أن انفجرت في طورها الأول كفلتانٍ أخلاقي شكّل تهديدا للفرد، للمجموعة والمجموعات. هنا تعمدت الدولة عدم ضبطه طالما يعمّق الهدم والتآكل الذاتي ويدفع بالجميع إلى حضنها أكثر وأكثر لحمايته. ولكل حماية ثمن ليس آخرها استنجاد النائب منصور عباس برئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، لإنقاذ العرب من أنفسهم.. والإنسان الأبسط منه عرض خدماته الإخبارية على أجهزة الأمن مقابل تسليحه لحماية نفسه وأهله.

هكذا أصبح الجلاد المُستعمِر ملاذ الضحية المُستعمَرة والمتحكم في سيرورة تطوير اللاتطور في سياق عزل النخب وشريحة الوسط وتحييدها وتعميق مراوحة العامة في المكان الذي حصلت فيه كارثة النكبة؛ مع فارق هو أنّ نخب الحداثة قبل النكبة، على قلّتها، كانت تحاول بانخراطها في صفوف العامة تأهيل تربة اجتماعية لزرع بذورها وقادت وقاتلت واستشهدت في حضن أهلها. وحينما حصلت النكبة كانت باثنتين الأولى ضياع الأرض والوطن والثانية انهيار المجتمع ومعه سيرورة حداثته.

كارثة أوسلو وتجزئتها للشعب الفلسطيني استكملت المهمة وكما استبطن الاستعمار الصهيوني نخب عرب الـ48 وعزلها عن التأثير في العامة خاصة بعد أوسلو، كرّر ذلك مع عرب الضفة الغربية بتصفية النخب القيادية بالاغتيالات والسجن والدمج الانتقائي الوظيفي عبر السلطة الفلسطينية وهو يتقدّم بثبات نحو الهدف. وما ظاهرة استفحال المناطقية والردة العشائرية والقبلية والطائفية في الضفة الغربية إلّا مقدمة لمأسستها ديمقراطيًا في نظام المجالس المحلية ودولة إسرائيل الكبرى بين النهر والبحر.

وإن كان الاستعمار الصهيوني كدولة ورافده المال الأجنبي واليهودي كجمعيات، استهدف الشعب الفلسطيني في عموده الفقري (النخب وشريحة الوسط أساس حراك المجتمعات والتغيير في التاريخ)، فعلى هذه النخب وقيادات التغيير إدراك هذا الاستهداف. وحقيقة أخرى يجب فهمها، هي وصول عدد اليهود الإسرائيليين في الضفة عام 2025 إلى 750،000 نسمة موزعين في ثكنات سكنية ذات طابع عسكري، مقطّعةً التواصلَ العربي جغرافيًا. وعليه لن تكون دولتان ولا دولة واحدة فيدرالية أو دولتان في وطن لأن الاستعمار الصهيوني لن يقبل بذلك. ستكون إسرائيل الواحدة دولة الفصل العنصري وديمقراطية الشعب السيد بين النهر والبحر.

الرد المطلوب هو أخذ شريحة الوسط والنخب في فلسطين التاريخية وخارجها دورها التاريخي كعضو وحليف فاعل ومحرك لشعبها وللشعوب العربية من خلال التحالف مع النخب العربية القيادية المطالبة بالتحرر من الأنظمة المستبدة، بما فيها سلطة أوسلو كجزء من النظام العربي الرسمي وصنيعته. من هذا الموقع التشبيك عالميًا مع قوى الديمقراطية والعدالة والمساواة ومنها اليهودية أيضًا في إسرائيل. هذا إذا اقتنعنا أن لا سلام ولا مساواة أو عدالة مع الصهيونية الإحلالية. وكذلك استوعبنا أن فلسطنة القضية كانت مصيدة قادت لكارثة أوسلو وسلطة التبعية لإسرائيل التي شرعنت تتبيع النظام العربي الرسمي لإسرائيل ومعه اغتصاب فلسطين.

نعم، مهمّة التحرر من النظام العربي التابع ومعه أوسلو غدت واحدة. هنا ساحة المعركة وليس سياسات الهروب إلى الأمام كالمستجير من النار بالرمضاء. فالقاتل نحن ومنا بعد ما أوغل الاستعمار في ذبحنا وتشوهينا بتثبيت اللاتطور كسيرورة اجتماعية هجينية تعيد اجترار نفسها بآلية تأكل ذاتي اجتماعي عامودي يفتت المفتت وأفقي يعمق الفلتان والفوضى والقتل وقد تصل إلى أشكال من الحرب الأهلية. وما اغتيال وقتل 111 ضحية هذا العام 2020 إلا مقدمة للقادم الأبشع.

إسرائيل وشرطتها وميزانياتها لن تحمي عرب الـ48، إذا لم يحموا أنفسهم منها ومعهم كل الشعب الفلسطيني والعربي كتفا على كتف.

عن “عرب ٤٨”