نعم من يفشل في تحرير الإنسان لن ينجح في تحرير الأرض

12 يناير 2021آخر تحديث :
نعم من يفشل في تحرير الإنسان لن ينجح في تحرير الأرض
نعم من يفشل في تحرير الإنسان لن ينجح في تحرير الأرض

بقلم: راسم عبيدات

نعم من يفشل في تحرير الإنسان لن ينجح في تحرير الأرض… ولا قيمة للأرض في ظل انسان منخور، متعفن، فاسد ومحطم من الداخل.

عوامل أزماتنا الداخلية تكمن فينا، فكل هذه العوامل متشابكة تخلق هذه الأزمة المستديمة والتي أضحت بنيوية، جهل، تخلف، فقر، جوع، عشائرية وزبائنية، تشويه للدين،انهيار للمنظومة القيمية والأخلاقية والسلوكية، عبادات لا تترجم في أرض الواقع، سلوك لا معياري، كذب، دجل، نصب، فساد، تزلف، واسطة، إزدراء للتعليم، ثقافة دروشة وجهل وتخلف، شيوخ وخطباء مساجد عدد منهم فتنويين ومذهبيين … غياب لدور الفكر التنويري والحضاري، استلاب للعقول … احتلال يعمل وفق استراتيجية ومنهجية طويلة من أجل اسقاطنا وتفتيتنا وانهيارنا من الداخل … نشر كل الآفات والأمراض الاجتماعية في أوساطنا المخدرات الفردانية والأنانية جذب الشباب نحو الموبقات … اختراق النسيج الاجتماعي والأسري … نشر السلاح المشبوه في أوساطنا وازدراء العلم والتعليم .

المحتل لا يتعاطى ولا يتعامل بعواطف ولا بردات فعل ولا سياسة “عليهم عليهم” ولا ” القدس خط احمر” ولا “العاصمة الأبدية” ولا “سفينتنا ذاهبة للقدس اركبوا فيها”،الاحتلال يمتلك مراكز بحث وخبراء وعلماء نفس واجتماع ومحللين، وليس مجموعة من المشعوذين ولا بياعي الشعارات وممتهني الخطابات والخطب … وهو يدرك بأن هذا الصراع وجودي معه والعامل الديمغرافي واحد من العوامل المقررة فيه… ولذلك جاءت خططه وبرامجه تدمير المجتمع الفلسطيني من داخله زرع تجار المخدرات والمافيات في اوساطه والسكوت على والمساهمة في نشر السلاح والمتاجرة به مع المعرفة الدقيقة بمصادرة واستخداماته.

الحرب بدأت في الداخل الفلسطيني- 48 – مافيات وتجار مخدرات وعصابات منتشرة في المدن المختلطة، تمارس القتل والبلطجة وفرض الأتاوات والخاوات وتنشر فيها المخدرات وكل أنواع الموبقات من أجل تفريغها من سكانها العرب، اللد، الرملة ، يافا،عكا وغيرها ومن ثم جرى نقل حروب المافيات وعمليات القتل الى الأطراف القرى والبلدات العربية الكبرى ام الفحم الطيبة كفر قاسم الطيرة وغيرها.

الهدف واضح هو عدم شعور الفرد بأمانه الفردي الشخصي. والخيارات أمامه إما ان يتسلح ويدافع عن امنه الشخصي والأسري أو يحتمي بالعشيرة والقبيلة او الطائفة أو يلتحق بجيش وشرطة الاحتلال أو يهجر هذه البلاد …. سياسة ” الطحن” والقضم التدريجي والاختراق والتفتيت من الداخل مجتمعياً تدمير ممنهج للنسيج المجتمعي وطنياً نزع أي انتماء وطني وتفكيكه … خلق حالة من عدم الثقة في المؤسسة الوطنية او الحزبية او الجدوى من النضال والمقاومة وتحويل الشعب الفلسطيني هناك الى مجموعات سكانية، وليس شعبا له حقوق وطنية وسياسية ويعبر عن هوية وقومية ووجود أصيل.

الضفة الغربية بقيت محصنة نوعاً ما من تلك الأمراض الاجتماعية، فالصراع والاشتباك مع المحتل محتدم على الأرض والحقوق وانتفاضة شعبية بقيادة وطنية موحدة، انتفاضة الحجر كانون اول/1987،لاجمة لكل التناقضات والخلافات المجتمعية الداخلية، ومغلبة الصراع مع المحتل على أية صراعات اخرى، قوى مجتمعية منخرطة وموحدة في الكفاح والنضال ضد المحتل، لديها هدف واحد وحيد نقل الدولة الفلسطينية من الإمكانية التاريخية الى الإمكانية الواقعية، ولكن بدلاً من تحقيق هذا الحلم، دخلنا في كارثة اتفاق أوسلو والتي إحدى نتائجها على الأرض تفكيك النسيجين الوطني والمجتمعي وتفريغ الكثير من المناضلين وأبناء شعبنا الفلسطيني من محتواهم الوطني والكفاحي وربط مصيرهم بسلطة ضعيفة لا تمتلك أي سيادة على الأرض، وليس هذا فحسب ،بل جرى ربط مجمل حياتهم بمؤسسات النهب الدولية من صندوق نقد وبنك دوليين قروض تصل حد الرهن ليس فقط على ممتلكاتهم من أرض وبيوت، بل سيارات واثاث بيوت زوجية وغيرها.

السلطة التي أتت لم تشكل انموذجا ولم تنجح في تطبيق او جعل القانون هو المرجعية، بل كانت حلولها تجري خارج القضاء وعبر صفقات تعقدها وكذلك اعلاء دور العشائر والقبائل فوق راية الوطن والمبنى الوطني وتغييب دور القضاء…إنسداد الأفق السياسي وغياب الحلول والشرذمة والانقسام وتفشي الفساد والمحسوبيات من أعلى الى أسفل وغياب الوعي الوطني وتراجع دور القوى الوطنية والحزبية، سواء لجهة العامل الذاتي، تعمق أزماتها وتكلس وتنمط قياداتها أو لجهة دور السلطة في إضعاف دورها وضعف سيطرة السلطة او سيادتها، كل ذلك شكل مرتعاً خصباً لكي تنتشر العصابات والمافيات سواء في القدس او الضفة الغربية، وبالذات شكلت مناطق (سي) بفضل ” نعم” اوسلو تربة خصبة لكي يمارس الزعران والمافيات والمليشيات دورهم في تفتيت بنية المجتمع ونشر كل انواع الرذائل والموبقات في تلك المناطق من سرقات وتعديات وتجاوزات على القانون والتعدي على ممتلكات الناس وكراماتهم ووضع اليد بالقوة على أراضيهم وتدفيعهم الخاوات والأتاوات، ونشر المخدرات والمتاجرة وتوزيع السلاح المشبوه والسلاح العشائري والقبلي.

طبعاً المحتل وأجهزته الشرطية والأمنية ايديها وبصماتها ليست بالبعيدة عن كل ما يحدث، فهي ترى في تفكيك المجتمع وتفتيت بنيته واختراقه مجتمعياً ووطنياً واحدة من استراتيجياتها الرامية الى السيطرة على الأرض الفلسطينية وتهويدها، وحشر الشعب الفلسطيني في “غيتوات” و”معازل” في محيط اسرائيلي واسع تحت سيادة وسلطة العشائر والقبائل، مع العمل على شيطنة الشعب الفلسطيني، وتصويره على انه شعب مجرم لا يستحق لا دولة ولا حرية ولا إستقلالا.

القوى والأحزاب كافة تحجم عن القيام بدورها الوطني والمجتمعي، ويغيب الفكر الحداثي التنويري العلماني التقدمي،حيث شهدنا بعد ما يسمى بثورات الربيع العربي 2011، عملية ” تدعيش” للمجتمع، ولنجد انفسنا امام أكبر عملية اختطاف للدين من قبل قوى خرجت وفرخت من رحم جماعات متأسلمة عهدت لها أمريكا واسرائيل ومعها العديد من المشيخات الخليجية العربية بتدمير الوطن العربي عبر تفكيك وتفتيت وتذرير جغرافيته وإعادة تركيبها على أسس مذهبية وطائفية،وبما يلغي مكونات وحدة الأمة مصيراً وهدفاً وجغرافيا وسوق وتاريخ وهوية،وأصبحنا نشهد ظواهر ومظاهر مثل حرق البشر الأحياء وبيع النساء في أقفاص في سوق النخاسة والقتل بطريقة بوهيمية وحشية،من خلال سيادة ثقافة وفكر الكهوف” طوربورا” والسجون” غوانتنامو”، هذا الفكر وهذه الثقافة انتقلت الى مجتمعنا الفلسطيني الذي لم يعد محصناً امام تلك الظواهر، وجرت عملية اختطاف وتوظيف للدين من قبل جماعات فرخت وخرجت من رحم الجماعات المتأسلمة، تلك الجماعات التي لا تمتلك سوى قراءة آحادية للدين تقوم على القتل والسحل وشق الصدور وبقر البطون وجلد الظهور، وهي تكفر أتباع المذاهب الأخرى من نفس الديانة فكيف بأتباع الديانات الأخرى؟

ولذلك عندما نشاهد ونرى ما يحدث في مجتمعاتنا العربية من تنامي الخطاب التكفيري الظلامي المشبع بالحقد والكراهية والفتنوية، وتضخيم أي حدث صغير فردي والباسه ثوب الطائفية او العشائرية والقبلية، وفي سياق تفكيك وحدة ونسيج المجتمع شهدنا خطابات و”بوستات” تدعو على سبيل المثال الى عدم مشاركة أبناء الوطن من العرب المسيحيين للتهنئة بأعيادهم، وكذلك قيام البعض دون أن يلصق الاتهام بجهة معينة بحرق شجرة عيد الميلاد في سخنين مرتين، وبتزامن أعياد الميلاد وإقامة احتفال من قبل فرقة موسيقية في مقام النبي موسى، في إطار خلل واضح وانتهاك لحرمة وقدسية المكان تتحمل مسؤوليته الفرقة والقائمون عليها والجهات التي لها علاقة بالمسؤولية عن المقام والمكان من وزارتي الأوقاف والسياحة وغيرها.

المهم هذه الحادثة جرى تضخيمها بشكل كبير جداً وجرى توظيفها ووجدنا انفسنا امام خطاب داعشي تكفيري، يراد منه اخذ وطننا ومجتمعنا الى المجهول والتفكك المجتمعي. وفي قضية مقام النبي موسى وما حصل اود القول لمن يقرأون التاريخ جيداً بأن الكاتب والأديب الفلسطيني خليل بيدس أحد قادة الثورة الفلسطينية ضد الانتداب البريطاني عام 1920م، أذّن لتلك الثورة من مقام النبي موسى، وجرى سجنه من قبل البريطانيين والحكم عليه بالإعدام ليجري تخفيض الحكم الى 15 عاماً، وتحت ضغط المظاهرات الشعبية أطلق سراحه بعد أربعة شهور، وما قام به الكاتب الفلسطيني العروبي بيدس، يذكر بالموقف القومي العروبي لرئيس الوزراء السوري فارس خوري عام 1944م والذي كان في نفس الوقت وزيراً للأوقاف الإسلامية، وعندما اعترض البعض، خرج النائب عن الكتلة الإسلامية في المجلس أنذاك عبد الحميد الطباع ليقول للمعترضين”إننا نؤمن فارس بيك الخوري” المسيحي” على أوقافنا أكثر مما نؤمن أنفسنا”.

إن حجم الإختراق الحاصل في مجتمعنا الآن،يجعلنا ندق ناقوس الخطر باننا ذاهبون الى الكارثة بأيدينا،وعلينا ان نتصدي بحزم وبأدوات جديدة وأساليب جديدة لكل الظواهر والمظاهر السلبية في مجتمعنا التي تهتك وتخترق جدار النسيجين الوطني والمجتمعي على طول وعرض جغرافيا فلسطين،قبل أن يتسع الفتق على الراتق ويصبح من الصعب رتق الفتق….علينا ان نقر أولاً بأننا أمام معضلة ومشاكل اجتماعية عميقة، وبأن المحتل نجح في تحقيق اختراق جدي في نسيجنا المجتمعي، وهذا الإختراق نحتاج الى ان نحاصره وان نجابهه، ونواجه بشكل جدي القائمين عليه، وأن نعمل على اجتثاثهم ولفظهم من مجتمعنا، وهذا يحتاج الى سواعد فعل حقيقية تقود فكر وثقافة قائمة على أساس أن شعبنا الفلسطيني واحد ومتساوي في الحقوق والواجبات أمام القانون. وان كل من يعبث بأمن مجتمعنا ونسيجه الأهلي والمجتمعي يجب فضحه وتعريته واجتثاثه من مجتمعنا، من يزرعون الفتن ويبثون خطاب الكراهية والحقد والإقصائية يجب التوقف أمامهم …والعصابات والمافيات والزعران يجب أن يكون موقف وطني وعشائري ومؤسساتي ومجتمعي بمجابتهم والتصدي لهم ولفظهم من بين ظهرانينا،بحيث يجري رفع الحماية والغطاء وطنياً وعشائرياً عن مثل تلك الجماعات والمافيات والمليشيات والزعران. وأيضاً يجب ان يكون هناك تجريم واضح وعقوبات رادعة من قبل السلطة وأجهزتها بحق كل العابثين بالسلاح او المستخدمين له في الأعراس والجنازات والمناسبات المختلفة، وتحريم استخدام السلاح في قضايا الاحتراب القبلي والعشائري وتجريم كل من يقوم على استخدامه او يحرض او يأمر باستعماله وتهديد السلم الأهلي والمجتمعي،وكذلك نبذ ووقف الخطابات والخطب الفتنوية والمذهبية والتحريضية،والتركيز على خطاب التسامح والوحدة ونبذ الفرقة والفتن.