جواد بولس
ما زلت أشعر، قبل كل زيارة لأسرى الحرية الفلسطينية في سجون الاحتلال، برهبة تذكّرني ببدايات عملي قبل أربعين عامًا؛ فقبل النوم أراجع ترتيبات الدخول إلى السجن المعني وأعدّ رئتيّ لرحلة عذاب صغيرة بعد أن أعياهما الزمن وصارت قدرتهما على إكمال الشهيق، حتى في حالة جهد بسيط، مهمّة عزيزة وشاقة. وفي الصباح أحدّث نفسي وأهيّئها لحوار أريده بين صديقين وأتعمد أن يكون بعيدًا عن التكلف والرتابة.
السجن، هكذا علمتني التجربة، هو مرآة لحياة الناس؛ وفي بعض حالاته وتقلباته هو الحقيقة وتجسيد لواقعهم؛ فعتمته تعرّي، في أحيان كثيرة، الزيف المدّعى في نور ذلك “الخارج”، وبرده يفضح فشل “الانساني” في إقامة العدل البسيط. في السجن، في حيّزاته/الجغرافيا، لا مرتبة وسطى، فإما قامع وإما مقموع؛ أما وراء القضبان، حيث يصير المتغطرس المستبد سيّد العذاب وكاتم صرخة العدم الأولى، الخارجة من رحم الوجع الى عالم الشقاء، تبقى الحرية مجازًا والأرواح إما شظايا ونثاراً وإما رماحاً.
السجن في الحالة الفلسطينية هو “مسنّ للجباه” أو قدر لا يمكن اجتنابه أو النأي عنه، فما دام هنالك احتلال سيكون، فريضةً، نضال ومهور وسناء؛ والخارجون منه أحياء هم الأمنيات المحلقة على “طريق النحل” أو شقائق نعمان!
كانت زيارات الأسرى الأمنيين في السجون الاسرائيلية وبقيت بالنسبة لي بمثابة الحاجة والضرورة؛ فبدونهم أشعر بحالة “يتم سياسي” مرهقة، أما بلقائهم فأستعيد توازني الضروري لبقائي سالمًا في عالم فلسطيني مشوّش ومخادع وهش. أدخل السجن، بالعادة، وبصدري غصة نابعة من مرارة الواقع الذي نعيشه “كأحرار” في وطننا، وكثيرًا ما أخرج منه وعلى وجهي بسمة وفي البال أغنية، وهذا ما حصل معي في زيارتي الأخيرة.
لم أنتبه لدخوله الى غرفة الزيارة، فلقد كنت ألتقط أنفاسي ملقيًا برأسي على ذراعي، وعيناي ساهمتان. سمعت نقرة كفه على الزجاج الفاصل بيننا، فجفلت. سألني عن صحتي واعتذر على طلب زيارتي. بحركة خفيفة برأسي أسكتّه وأكّدت له بأنني مرتاح ومغبوط للزيارة ، فأنا من دون هذه الفسحات سأختنق. ثم انتقلنا الى شؤون الساعة وما يواجهه ورفاقه داخل السجن وخارجه.
كان بشوشًا كعادته ومرحًا كطير الصباح على الرغم من السبعة عشر عامًا التي قضاها في الأسر. أوجز أمامي أوضاع الأسرى ومشاكل السجن؛ ففهمت أن الأمور ما زالت تراوح مكانها وانهم لم يشعروا بينهم بأية انعكاسات لاحاديث الوحدة والمصالحة واستعادة أنفاس فلسطين الديموقراطية وتراتيل التسامح والمغفرة .
حاول أن يفهمني أنهم كأبناء لحركة “فتح” ليسوا في حالة حرب مع أسرى باقي الفصائل؛ لكن جروح الانقسام التي أصابت جسد الحركة الاسيرة، في اعقاب زلزال عام 2006، لم تندمل بعد، بل ما زالت أثارها تنضح هنا وهناك وبشكل أو بآخر؛ وأكّد، كذلك، على أن بني “عبس” لا زالوا يعيشون، في معظم السجون، في مضاربهم؛ بينما يعيش، بمعزل عنهم، بنو “ذبيان” وحتى بين هؤلاء قامت قبائل جديدة وأفخاذ عديدة .
كان صارمًا ومتفائلًا وقلقًا، وكنت حزينًا ؛ لا سيّما وكلانا يعرف أن نجاح أي حكومة يمينية اسرائيلية جديدة بتطبيق قرارات لجنة ” أردان” بشأن حقوق الأسرى الفلسطينيين سيؤدي إلى تقويض شامل لواقع معيشي، نجحت الحركة الأسيرة الفلسطينية بتحقيقه وبتثبيته عبر مسيرة كفاح طويلة وصارمة، لامست في بعض محطاتها حدود المعجزات.
كان حديثه نابعًا من قلب مناضل يعي أهمية الانتظار والصبر، ويعرف كيف أفشلت تضحيات آباء الحركة الاسيرة مخططات الاحتلال، وكيف نجحوا، بعد أن خاضوا أشرس المعارك ضد قمع السجانين، بقلب المعادلة رأسًا على عقب؛ ففي حين حاول السجان الإسرائيلي تدجين المقاوم الفلسطيني ومعاملته كمجرم وكارهابي يعيش في ظل القانون الاسرائيلي ومننه، أصرّ هؤلاء المناضلون على أنهم أسرى لحرية شعبهم وجنود في سبيل الاستقلال وبناء دولتهم، أسوة بباقي شعوب الأرض.
انه يعرف، مثل من بنوا صروح العزّة في البدايات، هكذا أفهمني، أن لحمة الجماعة هي الضمانة الأكيدة لحماية أفرادها، وهي الوسيلة الأنجح لصد سياسات القامعين؛ فأشدّ ما يحتاجه المحتل اليوم هو ظفره بأرواح المناضلين الفلسطينيين والتحكم فيها وراء القضبان، وابقاؤها تائهة كفرائس للخيبة وللهزيمة ولفقدان الأمل.
ما زالت سجون الاحتلال تستقبل أعداد المقاومين ببرودة الموت، فهل سيدخلونها اليوم كما دخلتها قوافل الآباء وهم يسيرون على دروب النور والمجد والعزة؟ لقد كانوا يُلقَون في البئر فرادى وفي الجب”خلايا” فكانوا يأتلفون زرافاتٍ ويكبرون أجيالًا ويمضون أشدّاء؛ فشيّدت أرواحُهم، على طريق الشوك وانفاس الندى، ما صار يعرف في تاريخ الكرامة البشرية باسم ” الحركة الأسيرة الفلسطينية”.
لم أتركه إلا بعد أن أحسست بقلبه ينبض إصرارًا ومن عينيه ينثال شلال نور؛ فهو وأسرى كثيرون مثله على قناعة بأن محاولات القائمين على مخطط سحق “الحركة الاسيرة الفلسطينية” تأتي بعد أن استشعر هؤلاء حصول عدد من المتغيّرات على حياة الفلسطينيين، وبروز عدد من المحفزات التي وظفوها واستغلوها في سبيل تسهيل مهمتهم المذكورة. لن اعدد جميع تلك العوامل، التي جئنا على ذكرها، لكننا، حتمًا، سنجد في مقدمة أخطرها وأقواها “استيراد” قيادات فصيلي النزاع الاساسيين، حركة “فتح” وحركة “حماس”، مضامين ذلك الانقسام، وتذويتها كواقع يحدد هوامش معيشتهم داخل الأسر في السجون وضوابط علاقاتهم اليومية .
ودّعته بعد أن اتفقنا على لقاء جديد، سأذهب اليه بنفس مشاعر الرهبة والتوجس من أن شيئًا على واقع الأسرى لن يتغيّر للأحسن؛ فلقد صادفت زيارتي للسجن مع مرور الذكرى العاشرة لانعقاد مؤتمر نصرة الأسرى الفلسطينيين في دولة المغرب. تذكرت تفاصيل تلك الأيام المجيدة، وأنا في طريق عودتي ، وأحزنني كيف طُويت الذكرى ولم يلتفت اليها أحد. كان الحدث لافتًا بامتياز، فمحاور المؤتمر كانت غنية ومخرجاته مبشرة، لا سيما وقد شارك في أعماله نخبة من الشخصيات الحقوقية، وسياسيون ومناصرون لنضالات أسرى فلسطين، كان في طليعتهم الفنان مرسيل خليفة والشاعران سميح القاسم وزاهي وهبة. مضت الذكرى مثلها مثل غيرها كريشة في مهب الريح ونُسيت، فالنسيان، في تاريخ فلسطين، محبرة والدموع حبرها الأثير.
أخبار لقاء الفصائل في القاهرة تملأ، في هذه الأيام، نشرات الاخبار، وتبشر الفلسطينيين بالاجواء الاخوية التي سادت جلسات النقاش، وبالتوصل الى تفاهمات مبدئية، ستتلوها حوارات قريبة للخوض في التفاصيل التي من شأنها أن تضمن اجراء الانتخابات، كما اعلن الرئيس محمود عباس في مرسومه الاخير .
كل شيء في شرقنا جائز ، ولكن الأيام تمضي والأسرى الفلسطينيون يعيشون في حالة من انتظار الفرج الفلسطيني الموعود والترقب المتعب، ويعرفون حقيقة واحدة مؤكدة مفادها ان الحكومة الاسرائيلية الجديدة سوف تستأنف ما بدأته حكومة نتنياهو السابقة، وقد يكون ذلك، كما كان، في أجواء فلسطينية ضبابية وحالة عربية بائسة.