بقلم:جيمس زغبي
العقدان الأولان من القرن الحالي، استهلهما الترويع واختتمهما العنف. فقد كانت البداية بترويع هجمات الحادي عشر من ايلول الإرهابية عام 2001 التي حصدت ما يقرب من ثلاثة آلاف من أرواح الأبرياء. والختام حدث في السادس من كانون الثاني 2021، مع اقتحام مقر الكونجرس الذي تسبب في خسائر خاصة للحياة الأميركية. ورغم الاختلاف الشديد بين الحدثين، لكن ضررهما كان شديداً. فأنا مقيم في واشنطن منذ أكثر من أربعة عقود، ولم تؤثر أي من الأحداث الأخرى بشكل كبير على حياة الناس في المدينة، مثلما أثر هذان الحدثان. ففي أعقاب الهجومين، شهدنا إجراءات أمنية غير مسبوقة تركت أنحاء من واشنطن تعيش حالة من الخضوع للسيطرة العسكرية فيما يبدو. وترك كلا الحدثين لدينا شعوراً بالانتهاك وبالضعف.
وتجلى الاختلاف الكبير بين الهجومين في رد فعل الزعماء والمشرعين السياسيين. فقد كان مرتكبو هجمات الحادي عشر من سبتمبر من الأجانب وكانت حصيلة الوفيات كبيرة، ولذا توحدت صفوف الأميركيين بصفة عامة. وفي استجابة على حالة انعدام الأمن، اتحد «الديمقراطيون» و«الجمهوريون» لتوسيع نفوذ سلطات إنفاذ القانون. وأدى هذا في أحيان كثيرة إلى انتهاك الحقوق التي يكفلها الدستور، بينما لم يساهم إلا قليلاً في حماية الأميركيين من حدوث هجمات في المستقبل. وتم ترحيل آلاف المهاجرين العرب والمسلمين بغير وجه الحق. وتم استجواب آلاف آخرين ومُنعوا من السفر جواً، وفقدوا وظائفهم وفرصاً في السكن. فقد كان الباب مفتوحاً لعملية مراقبة تطفلية دون تصريح للمواطنين والمقيمين العرب وبدعم من الحزبين. وبعد تحقيق استقصائي، توصلت لجنة شكلها الكونجرس إلى أن الإرهابيين لم ينشأوا داخل البلاد، وأنهم جاءوا من الخارج لتنفيذ مخطط شرير يحصد أكبر عدد ممكن من أرواح الأميركيين. ولم يكن للإرهابيين قاعدة دعم داخلية. واتضح أيضاً أنه كان بوسع وكالات الاستخبارات الأميركية المختلفة تفادي الكارثة، لو أنها تبادلت المعلومات فيما بينها.
وبدلاً من إلقاء المسؤولية على عاتق من يستحق، واصل «الديمقراطيون» و«الجمهوريون» دعمهم للتشريعات والممارسات التي استهدفت العرب والمسلمين بالذات، كما لو أنهم سبب الهجمات. ونتيجة لهذا، عاش كثيرون من أفراد هاتين الطائفتين في خوف، وشعروا بريبة قطاعات من الجمهور الأوسع فيهم. وزادت جرائم الكراهية وأيضاً أعمال التمييز الصريحة. وأثناء العقد التالي لهجمات الحادي عشر من ايلول واصل الحزب «الجمهوري» استغلال هذا الخوف من العرب والمسلمين، مستخدماً إياه كقضية حزبية في الدورات الانتخابية المتعاقبة، وتسارع هذا النهج «الجمهوري» عقب انتخاب باراك أوباما رئيساً. ومهد استغلال «الجمهوريين» بشكل متزايد المشاعر المعادية للمسلمين الطريق لحملة رهاب الأجانب التي اتبعها دونالد ترامب في الوصول إلى الرئاسة.
وعلى خلاف هجمات الحادي عشر من ايلول، كان العصيان وأعمال العنف في السادس من كانون الثاني في الكونجرس شأناً محلياً نسقت فيه مجموعة من الميليشيات المعادية للحكومة ومن اليمين المتطرف الهجوم. ونعلم أن جهات إنفاذ القانون توقعت حدوث أعمال عنف قبل يوم التنصيب، لكنها كانت غير مستعدة فيما يبدو لمثل هذا الحجم الكبير من الاضطراب. ومع اقتحام حشود المشاغبين المبنى، تميزت استجابة المسؤولين بالبطء، مما ترك أفراد شرطة مقر الكونجرس غير المزودين بعتاد ملائم أمام حشد أقوى منهم. لقد كان من المروع أن نشاهد همجاً مسلحين يقتحمون قاعات الكونجرس، ويحطمون النوافذ، ويخربون المكاتب، ويضربون أفراد الأمن، ويرهبون أعضاء الكونجرس. وكان الأكثر إثارة للصدمة حقيقةً، هو أن هذا العصيان العنيف حرض عليه الرئيس ونجله ومحاميه وأعضاء من الكونجرس، بغرض تغيير نتيجة الانتخابات.
وبعد وصول قوات من الحرس الوطني وأفراد الشرطة من أقسام مختلفة في المنطقة إلى الموقع، تم إخلاء المقر بعد موت خمسة أفراد وإصابة العشرات بجروح وتدمير كبير في الممتلكات وصدمة للأمة. وبعد هذا التمرد العنيف، ظل أفراد من الحرس الوطني منتشرين لتأمين الكونجرس ومواقع اتحادية أخرى. ورغم الصدمة من رؤية تعرض أحد رموز الديمقراطية لهجوم، ظهرت مؤشرات مبدئية على التكاتف القومي. فـ«الجمهوريون» الذين أيدوا زعم ترامب بحدوث تزوير في الانتخابات، جزعوا في بداية الأمر في رعب بسبب العنف وأدانوا سلوك الرئيس السابق. لكن بعد أيام قليلة، أيد هؤلاء الحزبيون أنفسهم السيد ترامب مرة أخرى. وبينما وحدتنا هجمات الحادي عشر من ايلول، أدى تمرد السادس من كانون الثاني إلى العكس فيما يبدو.
وبعد هجمات الحادي عشر من أيلول، أدهشني زعم عدد كبير من المعلقين والقادة السياسيين بأن الهجوم الإرهابي مثل «تهديداً وجودياً» لبلادنا. لقد كان هذا الزعم هراء. فأفكار تنظيم «القاعدة» أو الحصيلة الكبيرة من القتلى لم تفت قط في عضد القيم الهادية لهذه الأمة. لقد كانت السياسات التمييزية التي قصد بها مكافحة الإرهاب، هي التي دفعت إلى حروبنا اللانهائية على الإرهاب وهي التي شكلت تهديداً وجودياً لبلادنا. بل المثير للقلق هو قلة استخدام مصطلح «تهديد وجودي» في وصف الهجوم على ديمقراطيتنا من سياسيين «جمهوريين» من المؤمنين بتفوق البيض، بينما هذا هو الوصف الملائم في هذه الحالة. ومع وجود 70% من أنصار ترامب مازالوا يعتقدون أن نتائج الانتخابات تم تزويرها وقلة أو عدم تأثر الذين حرضوا على عنف أُريد به تغيير نتائج انتخابات ملتزمة بالقانون، فإننا نواجه أزمة وجودية بمستوى تاريخي. فقد كان أمننا وحقوقنا في خطر بعد هجمات الحادي عشر من أيلول، لكن مع عصيان السادس من كانون الثاني تعرضت ديمقراطيتنا في حد ذاتها للخطر.