«حماس» في المعادلة الفلسطينية: إيقاعات التشدد والاعتدال

27 يوليو 2014آخر تحديث :
«حماس» في المعادلة الفلسطينية: إيقاعات التشدد والاعتدال
«حماس» في المعادلة الفلسطينية: إيقاعات التشدد والاعتدال

filme onlain. حركة المقاومة الإسلامية، أو «حماس» في الاختصار الشهير، ليست صواريخ القسام والعمليات الانتحارية والتبشير العقائدي الإسلامي، فقط؛ ولا هي الفوز الصريح في الانتخابات التشريعية للعام 2006، والحكومة الحمساوية، والاقتتال الداخلي مع أجهزة محمد دحلان داخل السلطة الوطنية الفلسطينية و»فتح»، فحسب… بل هي، إلى ذلك كله، مؤسسات اجتماعية وخيرية، كالمدارس والمشافي ورياض الأطفال وصناديق الإغاثة؛ ثمّ «الجامعة الإسلامية»، التي أسستها الحركة سنة 1978، وتضمّ كليات علمية كثيرة غير الشريعة والفقه الإسلامي (سبق للقاذفات الإسرائيلية أن استهدفت الجامعة، مراراً).

وهذه الجامعة لا ترمز إلى الجوانب المعقدة لتاريخ وموقع حركة «حماس» فقط، بل لعلها ترمز أيضاً إلى مفارقة انقلاب السحر على الساحر في سياسات الاحتلال الإسرائيلي. ذلك لأنّ السلطات الإسرائيلية كانت في طليعة مشجّعي تأسيس حركة «حماس»، ضمن محاولة لشقّ المجتمع الفلسطيني، والالتفاف على الوجود السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية في غزّة، واستهداف الشعبية الواسعة التي كان يحظى بها الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات. وحين أطلق الشيخ أحمد ياسين أولى مؤسسات «حماس»، سنة 1973، وعُرفت آنذاك باسم «المجمّع»، وكانت مؤسسة خيرية تشرف على سلسلة من المشافي ورياض الأطفال والمدارس؛ لم تسارع سلطات الاحتلال الإسرائيلية إلى منح الترخيص فقط، بل أشارت بعض التقارير إلى تقديم دعم مالي غير مباشر لتلك المؤسسة الحمساوية الأبكر.
وكان طبيعياً، يومذاك، أن تثور الحساسيات بين «المجمّع» ومعظم مؤسسات المجتمع المدني الفلسطينية، ومن خلفها المؤسسات الخيرية التي كانت منظمة التحرير تدعمها أو تديرها؛ كما حدث مطلع 1980، حين هاجم نشطاء إسلاميون مقرّ «جمعية الهلال الأحمر»، وحاصروا بيت رئيسه الدكتور حيدر عبد الشافي، وحاولوا الضغط على دور السينما ومحال بيع الخمور والحانات. تلك كانت أطوار التشدد العقائدي، والسلوكي، التي لا تنحسر أو تتراجع على الأجندات الحمساوية، إلا لتطلّ من جديد، على خفر تارة أو على نحو صاخب طوراً.
والحال أنّ «حماس» الراهنة هي الوريث الأهمّ لجماعة «الإخوان المسلمين»، التي تأسست في غزّة سنة 1946، وقد اتخذت أسماء عديدة قبل أن تستقرّ على هذه المختصرات. والواقعة التاريخية تقول إنّ سبعة من كبار القيادات الإخوانية التقوا، أواخر 1987، وأعلنوا تأسيس الحركة، وهم: الشيخ أحمد ياسين وإبراهيم اليازوري ومحمد شمعة (ممثلو مدينة غزة)، وعبد الفتاح دخان (ممثل المنطقة الوسطى)، وعبد العزيز الرنتيسي (ممثل خان يونس)، وعيسى النشار (ممثل رفح)، وصلاح شحادة (ممثل منطقة الشمال). كذلك شهدت مرحلة التأسيس صعود قياديين من أمثال خليل القوقا، موسى أبو مرزوق، إبراهيم غوشة، وخالد مشعل.
وعقيدة «حماس»، كما نصّ عليها ميثاق الحركة الذي صدر في صيف 1988، لا تعطي لليهود الذين احتلوا فلسطين عام 1948 حقّ الاستيلاء على البلد؛ ولكن الحركة لا تعادي اليهودية في حدّ ذاتها، بل تعتبرها ديناً سماوياً. كما تعتبر مقاومتها للاحتلال الإسرائيلي «صراع وجود وليس صراع حدود»، وتنظر إلى دولة إسرائيل كجزء من مشروع «إستعماري غربي صهيوني» يهدف إلى تمزيق العالم الاسلامي والعربي وتهجير الفلسطينيين من ديارهم. ولهذا تعتقد الحركة بأن الجهاد، بأنواعه وأشكاله المختلفة، هو السبيل إلى تحرير التراب الفلسطيني؛ وترى أن مفاوضات السلام مع الإسرائيليين مضيعة للوقت، وبوّابة للتفريط في الحقوق. وتعتقد «حماس» أن عمليات التسوية بين العرب وإسرائيل، منذ مؤتمر مدريد عام 1991، قامت على أسس خاطئة، ولهذا فإنها تعتبر اتفاقات أوسلو تفريطاً بحقّ العرب والمسلمين في أرض فلسطين التاريخية. كما ترى، أخيراً، أنّ إسرائيل هي الملزمَة أولاً بإقرار مشروعية الفلسطينيين في أرضهم، والاعتراف بحقّ العودة.
وعلى نقيض عرفات، لم تتعاطف الحركة مع صدّام حسين حين اجتاح الكويت سنة 1990، وهذا ما جلب عليها رضا الدول الخليجية وتردد أن «حماس» ظلت تتلقى معونات تبلغ 28 مليون دولار شهرياً، من السعودية خاصة، الأمر الذي مكّنها من الحلول سريعاً محلّ منظمة التحرير في الأعمال الخيرية في غزة. وفي سنة 1994 أعطى موسى أبو مرزوق، وكان يقيم في الأردن آنذاك، أولى الإشارات على أن الحركة تقبل بـ»هدنة» مع إسرائيل إذا انسحبت إلى حدود 1967، الأمر الذي أكده أيضاً الزعيم الروحي للحركة الشيخ أحمد ياسين.
خلال الانتفاضة الثانية ازدادت أنشطة «حماس» السياسية والعسكرية، فتعاونت مع كتائب الاقصى التابعة لـ»فتح» في تنفيذ عمليات انتحارية، وانفتحت اكثر نحو إيران و»حزب الله» اللبناني على حساب السعودية ومصر؛ ثمّ قفزت شعبيتها في الشارع الفلسطيني قياساً على تضحيات قياداتها (تقول الإحصائيات إنّ العشرات من أبناء وبنات هذه القيادات اغتيلوا على يد إسرائيل، إلى جانب اغتيال الشيخ أحمد ياسين في آذار/مارس 2004، ثمّ الرنتيسي، خليفته في القيادة، بعد أسابيع). وفي موازاة تعثر المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، والحصار الذي فُرض على عرفات في رام الله ثمّ وفاته في ما يُظنّ أنه عملية تسميم، وانتخاب محمود عباس في غمرة فساد السلطة الوطنية الفلسطينية والرموز التاريخية لحركة «فتح»؛ كان طبيعياً أن تكتسح «حماس» الانتخابات التشريعية الفلسطينية، مطلع 2006.
ومنذ سنة 1996، حين وقعت سلسلة من العمليات الانتحارية، وتزامنت مع توقيع اتفاقات أوسلو II؛ تردّد أن محمد دحلان، رئيس «الأمن الوقائي» (جهاز الاستخبارات الأقوى في غزّة آنذاك)، تولى مهمّة تفكيك مؤسسات «حماس» السياسية والعسكرية. وفي صيف 2007 وقعت المواجهة الحاسمة والختامية، بين «فتح» و»حماس»، وأسفرت عن سيطرة الأخيرة على مقاليد الأمور في غزة، ولجوء عباس إلى إقالة الحكومة وتشكيل أخرى في رام الله تتولى تصريف الأعمال. وكان الصحفي الأمريكي دافيد روز قد نشر، في مجلة Vanity Fair لشهر نيسان (أبريل) 2008، تحقيقاً مثيراً عن هذا الحدث، اعتمد فيه على وثائق أمريكية رسمية عالية السرّية؛ فبرهن أنّ السلطة الفلسطينية وإسرائيل خططوا للانقلاب على «حماس»، فاستبقتهم الحركة وانقلبت عليهم!
ومنذ البدء قامت «حماس» على ثلاثة أجنحة منفصلة: السياسي، وأداره المقرّبون من الشيخ ياسين (اليازوري، إسماعيل أبو شنب، محمود الزهار)؛ والأمني والاستخباراتي، وكان يُعرف باسم «المجد»، بإدارة يحيى سنور وروحي المشتهى؛ والجناح العسكري، وبدأ من خلايا صغيرة قبل أن يصبح فصائل عز الدين القسام كما تُعرف حالياً. وعلى امتداد السنوات، وتعاقب الأحداث والأزمات، استقرّت قيادة «حماس» السياسية على جناحين، داخلي مقيم في قطاع غزّة، وخارجي مقيم في دمشق وبيروت؛ وثمة، في كلّ جناح، فريق اعتدال (يقوده أبو مرزوق)، وفريق تشدّد (لعلّ الزهار على رأسه)، وفريق وسط (أبرز رجالاته إسماعيل هنية رئيس الحكومة المقالة).
وبعد اندلاع الانتفاضات العربية، اختلطت أوراق «حماس» السياسية، والعقائدية استطراداً؛ فانحازت إلى الحراكات الشعبية، في تونس ومصر وليبيا والبحرين واليمن؛ وترددت، حول الانتفاضة السورية (بسبب انخراط الحركة في ما يُسمّى «محور الممانعة»، وعلاقة خالد مشعل الشخصية بالنظام السوري من واقع إقامته في دمشق)، قبل أن تحسم أمرها وتقف مع الانتفاضة، مما ألزم قياداتها بمغادرة سوريا.
وكما نجم فوز «حماس» في انتخابات 2006 عن رغبة المواطن الفلسطيني في معاقبة «فتح» على فساد قياداتها، فإنّ حروب إسرائيل المتعاقبة ضدّ غزّة تظلّ منبع الشعبية الأوّل للحركة؛ كما تصنع عامل الترجيح الأهمّ في ضبط إيقاعات التشدد والاعتدال داخل صفوف «حماس»: تزيد المتشددين تشدداً، وتزيد المعتدلين… تشدداً أيضاً!