أصبحت حوارة، آخر مكان في العالم تحرق فيه بلدة مدنية، وكان مصيرها يعتمد الليلة الماضية، على مدى انتشار النار فيها.
ارتفعت درجة حرارة الفضاء العام في حوارة حرفيا، وانتشرت حلقات كبيرة من النيران تكورت فوق أكثر من مربع سكني في البلدة، التي غلفتها غمامة واسعة من دخان الحرائق.
عاشت البلدة الصغيرة التي تقع إلى الجنوب من نابلس، وتحفها الأشجار الخضراء من كل النواحي، وسط النيران طيلة الليلة الماضية، كارثة ذات أبعاد غير مسبوقة.
وأدت الهجمات التي شنتها عصابات المستوطنين الإرهابية، إلى جعلها مركز حديث الفلسطينيين على مدار ساعات طويلة، وقال سكانها الذين واجهوا النيران إنها الأصعب في حياتهم.
في اليوم التالي لليلة الحرائق، بدا الناس في البلدة مصدومين غير مصدقين لما حدث.
فقد أظهرت النيران التي اشتعلت في أكثر من مكان بفعل شرارات قدحها المستوطنون كيف يمكن لبلدة أن تحترق في غضون وقت قصير، وكيف يمكن للأقدار أن توقف حريق بلدة كاملة.
ولحظة بلحظة، بُثت معظم تلك الحرائق على الهواء مباشرة، عبر أجهزة خليوية نقالة.
“كانوا ينقلون النار من مركبة إلى أخرى”، قال حسن عودة الذي هوجم منزله وأُحرقت أمامه نحو 15 مركبة كانت متوقفة هناك. في الليل شهودت النار التي أكلت المركبات وكادت تصل إلى المنزل على الهواء مباشرة، عبر “تيك توك” ومنصات اجتماعية أخرى.
حاول عودة وأبناؤه الدفاع عن ممتلكاتهم ومنزلهم، لكن النيران انتشرت بسرعة، “كنا أمام نارين: النار المشتعلة في المركبات، والنار التي يحاولون إيصالها إلى المنزل”. قال الرجل الذي كان يذود عن عائلة مكونة من 15 نفرا احتمَوا داخل جدران الغرف التي حُطمت نوافذها.
في بعض الشوارع، وقف الناس لمشاهدة منازلهم تحترق دون أن يستطيعوا إطفاءها. وفي الشوارع الخارجية تعرضت مركبات الدفاع المدني وطواقمها للاحتجاز والاعتداء.
مدير عام العلاقات العامة والإعلام في الدفاع المدني المقدم نائل العزة، قال إن طواقم الدفاع المدني المنتشرة في بلدات وقرى جنوب نابلس، أخمدت حرائق مشتعلة بفعل المستوطنين في منزلين أحدهما مسكون، ومخازن، ومركبة، ومشطب مركبات، ومحل أدوات كهربائية.
ودُفعت نحو المنطقة مع بداية الحرائق عدة مركبات إطفاء، لكنها تعرضت إلى التخريب من المستوطنين الذين اعترضوا طريقها.
لقد احتشدت مجموعات كبيرة من المستوطنين على أطراف البلدة، وفق إعلان نُشر مسبقا، قبل أن تدخلها وتبدأ بإشعار النار فيها.
كان صياح أهالي البلدة واستغاثاتهم تُسمع تباعا عبر البث المباشر في مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن أي تحرك لهم لمساعدة بعضهم كان محفوفا بالمخاطر، فإضافة إلى وجود المستوطنين المسلحين، كان جيش الاحتلال الإسرائيلي يتمركز في كل مكان.
قال أحد الذين ينقلون إحراق البلدة على الملأ عبر تقنية البث المباشر كلمتين تختصران الحالة المشتعلة “حوارة تحترق”.
كانت الطرقات إلى حوارة كلها مغلقة. وحتى في حال نجح القليل من التحرك عبر الطرقات الجبلية عائدين إلى قراهم أو منازلهم، فقد تنتهي رحتلهم بالقتل أو الاحتجاز الطويل، كما حدث مع سكان بلدات وقرى تقع إلى الشرق من نابلس.
تُركت النيران المشتعلة لساعات في البلدة، الناس على حافة الخوف من القتل المباشر أيضا بنيران المستوطنين.
خلال السنوات الماضية، طالما كانت النيران سلاح المستوطنين الأسرع للهجوم على القرى جنوب نابلس، فقد أُحرقت عائلة دوابشة وبعدها عدة مساجد ودور تعليمية ومركبات عديدة.
كانت الحرائق التي أُشعلت في حوارة هذه الليلة هي الأوسع خلال السنوات الماضية. أُحرقت المنازل فيها مرار، وكان نصيبها من النيران هذه الليلة هو الأكبر.
في الساعات الأولى لبدء الحرائق، كانت إلهام سلامة (22 عاما) تشاهد بعينيها منازل بلدتها تشتعل، ومع مرور الوقت غطت الأدخنة القادمة من الحارة الأخرى الأكثر تضررا على مشهد النيران.
“كنت أراهم وهم يشعلون النار في الأشجار. صحيح أننا اعتدنا على هجماتهم-تقصد المستوطنين- لكن هذه النيران أراها لأول مرة في حياتي”.
في الصباح، كان على سلامة أن تبدأ بجمع معلومات أخرى عما جرى في البلدة، فهي طالبة في كلية الإعلام، وتريد اليوم ممارسة العمل الصحفي في أحد أشد أشكاله قسوة من داخل منازل جيرانها.
في النهار، تكون البلدة التي اشتُق اسمها من بعض أنواع التربة فيها مركزا تجاريا وممرا للمسافرين بين شمال الضفة الغربية وجنوبها.
في الساعة الأولى قبل حلول الليل، دخل المستوطنون وسيطروا على الطرقات الرئيسة، وفي الأطراف بدأوا بإشعال النيران في منازل مأهولة وغير مأهولة.
عندما حل الظلام، اندفع المئات منهم وسيطروا على البلدة وأصبحت الشوارع فارغة تماما من المواطنين والمارة، وأُشعلت النيران في أكثر من موقع.
تُقدم النيران التي اشتعلت الليلة في حوارة تقديرا حيا عن حجم الكارثة التي يعيشها سكان القرى جنوب نابلس، وسط حلقة من المستوطنات التي تحيط بقراهم ومنها تنطلق الهجمات الليلية نحو منازلهم.
كان فريق الإسعاف يعمل فوق قدرة احتماله كما قال مسعفون، فأعداد الإصابات كبير جدا. بالنسبة لأحمد جبريل وهو مدير الإسعاف في الهلال الأحمر الذي شهد تلك المحرقة “كانت ليلة صعبة جدا”.
في الصباح، بدا سكان البلدة منهكين، لكنهم غير منكسرين. ووقف بعضهم أمام ممتلكاته المحترقة مشدوها ساهما في الأفق غير قادر على وصف ما جرى.
قال عودة محاولا تلخيص الحدث: “كان في المنزل أربعة أطفال أصغرهم بعمر 4 أشهر. كنا طيلة الليل نمنع النيران من الوصول إليهم (…) ضربوني على ظهري وكسروا ساعد ابني ونحن نحاول منعهم من الاقتراب من غرف الأطفال”.
كانت بورين وهي الجارة الملاصقة لحوارة، واحدة من أكثر القرى الفلسطينية المتضررة من النيران خلال السنوات الماضية، فقبل يوم من إشعال حوارة، اشتعلت أطراف القرية وأحرق المستوطنون مركبات فيها في وضح النهار.
أعطت موجة التضامن مع سكان البلدة دفعة من التفاؤل والصمود خلال هذه الليلة، إلا أن مهمة وصول البلدة من خارجها كانت شبه مستحيلة؛ فالطرقات مغلقة والجيش والمستوطنون يسيطرون بشكل كامل عليها.
كان التحريض ضد البلدة هذه الليلة في أوجه، فما إن نشر نائب رئيس “مجلس مستوطنات السامرة” دافيدي بن تسيون تغريدة تدعو إلى محو حوارة عن وجه الأرض.. سموتريتش وضع “لايك” عليها.
بالنسبة للفلسطينيين، هذه دعوة رسمية إسرائيلية مؤكدة للتخلص من وجود حوارة حرفيا، ويذكر هذا السلوك الفلسطينيين ذاتهم بما حصل إبان حرب التطهير العرقي التي شنتها عصابات يهودية ضد قراهم في عام 1948.
كانت النيران التي انتشرت في أنحاء حوارة الليلة أول مواجهة حقيقية لأطفال مع كوارث الحياة، عندما نأى بهم ذووهم عن الغرف المواجهة للخطر إلى أخرى.
“نقلنا أطفالا من منازل محترقة إلى مناطق أكثر أمنا. على الأقل أخلينا 3 منازل” قال المسعف جبريل (..) كان هناك خطر داهم يهدد حياة الأطفال والعجائز الذين لا يقوَون على التنقل”. استمرت عملية الإنقاذ والإخلاء حتى الساعة الواحدة والنصف فجرا.
يقول بعض سكان البلدة إنهم ينتظرون الآن الأسوأ، وهم بذلك يشيرون إلى جولات إحراق أخرى يشنها المستوطنون.
بعد مرور ساعات على بزوغ الشمس، كانت الادخنة مستمرة في التصاعد من بعض المنازل المحترقة.
قال عودة الذي كان يستعد للوصول إلى المستشفى: “كانوا يحاولون القفز عن الأسوار لإحراقنا” وهو بذلك يشير إلى محاولات المستوطنين المتكررة لإحراق منزله بعد إضرام النار في كراج المركبات الذي يعمل فيه.
ارتبط اسم حوارة بحاجز عسكري أيضا سمي شعبيا على اسم البلدة.
خلال العشرين عاما الماضية، لم يفارق الجيش الإسرائيلي النقطة العسكرية هناك، وهناك نقطة أخرى على المدخل الجنوبي أيضا تسمى زعترة نسبة إلى القرية المجاورة، التي هاجمها المستوطنون ليلا وقتلوا فيها الشاب سامح حمد الله محمود أقطش (37 عاما).
رثت القرية والقرى المجاورة أقطش، وقالوا إنه كان شابا محبا للحياة ويساعد الآخرين وينظم جولات “رالي” مركبات، وقد عاد منذ أيام من مهمة مساعدة وإنقاذ في الجنوب التركي الذي ضربه زلزال مدمر.
ـــ